جعل الله تعالى السننَ والأسبابَ والنواميسَ والقوانينَ مطَّردةً وموِصِلةً إلى تحقيق المقاصد وإدراك النتائج ، وطَلب من الإنسان استيعابَ هذه السنن والأسباب بعد أن شَرَعها له وخاطبه بها ، ودلَّل على فاعليتها بالعِبْرة التاريخية والحُجَّة المنطقية والبرهان المُحَسّ ، وناط النجاحَ في الدنيا والفوزَ في الآخرة بالقدرة على استيعاب هذه الأسباب وحُسْن تسخيرها والتعامل معها . إننا ، بني الإنسان ، باعتبارٍ ما .. شئٌ من الماضي ، ومظهرٌ من مظاهر تحقُّقه؛ ورؤيةُ سنن الله تعالى المطَّردة هي ما يُضفِي التنظيم والمنطقية على أحداث التاريخ. ومع وجوب الإيمان بقَدَره سبحانه .. فقد حض الشارعُ الحكيمَ على مدافعة الأقدار بأضدادها ، وهذا ما أشار إليه عبدالقادر الكيلاني في كلمته العالية : كثيرٌ من الناس إذا دخلوا القضاءَ والقَدَرَ أمسكوا (أي : امتنعوا عن الكلام فيهما) .. وأنا انفتحت لي فيه رَوْزَنةٌ (أي : نافذةَ معرفة) ؛ فنازعتُ أقدارَ الحقِّ بالحقِّ للحقّ . والوَليُّ من يكون منازِعاً للقَدَر .. لا من يكون موافِقاً له !« .. وعلَّق عليها ابنُ تيمية بكلامٍ نفيس : »وهذا الذي قاله الشيخُ تكلَّم به على لسان المحمدية . أي أن المسلم مأمورٌ أن يفعل ما أمر الله به ، ويدفعَ ما نَهَى الله عنه، وإن كانت أسبابُه قد قُدِّرت .. فيدفعَ قَدَرَ الله بقَدَر الله. فقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله .. أرأيتَ أدويةً نتداوى بها ، ورُقىً نَسْترقي بها ، وتُقىً نَتَّقيها .. هل تَرُدُّ من قَدَر الله شيئاً؟ ؛ فقال : »هُنَّ من قَدَر الله« (رواه الترمذي ، وقال : حَسَنٌ صحيح)» وقد أدَّى الخللُ في إنزال الدين (المطلَق الإلهي/المثالي/الكُلِّي) على واقع الناس المَعيش (النِّسْبي/الواقعي/الجُزئي) إلى طَرَفي نقيض : من خَفَتت في نفوسهم دواعي الدين وكاد يتلاشَى حضورُه في حياتهم اليومية ، ومن ازداد استمساكُهم بأحكامه الظاهرة من غير منهجٍ متَّزنٍ .. وإذْ يقع الاتفاقُ على أن »الدين« محفوظٌ بكَفالة الله تعالى («إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكْر وإنَّا له لحافظون» سورة الحِجْر ، الآية 9) ؛ يبقى الأمر في الكيفية التي تكون بها إثارةُ النزوع إلى «التدين» وتفجيرُ ينابيعه في النفس البشرية، ومن ثَمَّ .. تقويم السلوك الفَردي والاجتماعي بنَهْج الدين القويم؛ وفي خضم هذه التفاعل المستمر بين آصار الواقع وآفاق المثال تظل نوافذ التغيير مشرعة دوما على مصراعيها للوصول بالبشرية إلى آخر المحطات الممكنة في رحلة استخلاف الأرض «ويجعلكم خلفاء الأرض»(النمل:62)، «ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون»(يونس:14).