«إنك امرؤ فيك جاهلية» قالها المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما سبّ أحدهم آخر، معيراً إياه بأمه، فقال له (ص) «يا فلان عيرته بأمه؟ إنك أمرؤ فيك جاهلية»..إلخ حديثه عليه أفضل الصلاة. ومن ثم أصبحت هذه العبارة تُقال عند ارتكاب «زيد من الناس» معصية من صور الجاهلية، أدنى من منزلة الشرك، والعياذ بالله. نحن معشر السودانيين وبعد أن منّ الله علينا بنعمة الإسلام وارتضيناه دينا ومنهاجا لا تستقيم الحياة إلا به، ما بالنا نعود القهقري إلى جاهلية ما قبل الإسلام؟ والتى من صورها ما سأحدثكم به أخواتي وأخواني الأفاضل. كنا قد تناسينا ردحا من الزمان الكثير من صور العنصرية البغيضة كالتفاخر بالألقاب، والإحتماء والتناصر بالأسرة والقبيلة. إلا أنها «أي العنصرية» وللأسف أطلت علينا مرة أخرى بوجها القبيح، كالح السواد كما الليل البهيم، لتضيف صورا أخرى إلى ما ابتلانا الله به من صور في هذا الزمن اللعين. وأبدأ بالحكومة، إذ أعادت الإنقاذ بعض صور العنصرية كالترضيات الجهوية (كما في تعيين المستشارين)، وكذلك دعم وتقوية حزبها «المؤتمر الوطني»؛ بحجة مواجهة الحصار من الخارج، وخلق توازن زنجي- عربي، إلخ تلك الحجج والتي يرى الكثير من أهل السودان أنها «هراء»، وإنما دافعها في ذلك هو إطالة فترة البقاء في كرسي الحكم. والأدهى والأمر أن يعتلي بعض ممن كنا نحسبهم أخيارا صهوة هذه الموجة. فغير بعيد عن الأذهان ما نشرته بعض المواقع الإسيفيرية في الأيام الفائتة من مقالات تنضح بالعنصرية والجهوية والقبلية، لأشخاص مثل الشاعر والأديب فضيلي جماع، ووافقه فيما ذهب إليه الأستاذ شوقي بدري، وكذلك مقال بروفسيور محمد زين العابدين في جزئه الثاني. والأخير رد عليه كاتب آخر بمقال عنوانه «ليته صمت»، وهنا أضم صوتي له وأرددها بالصوت العالي «ليته صمت»!!. المؤكد أن مثل هذه الممارسات والأصوات النشاز والمليئة بالكره والبغضاء، لا تزيدنا إلا خبالا ووهنا على ما نحن فيه من وهن. ولو أمعن أولئك النفر قراءة تاريخنا الحديث، لعرفوا كيف أن شعب السودان طوال سنوات نضاله الوطني في المهدية وإبان ثورة اللواء الأبيض من عام 1924م، وقبل وبُعيد استقلاله في 1956م، انصهر في بوتقة واحدة، وضرب أنموذجا للتماذج الثقافي والإثني، باعتبارها مكامن قوة وفرصا للتميز والتفرد. والأمثلة في ذلك عديدة وشائقة، منها أن الإمام محمد أحمد المهدى المنحدر من أقصى شمال السودان جعل «تورشين» عبدالله التعايشي خليفة له دون أهله وعشيرته، والبطل علي عبداللطيف عندما سُئل في محاكمته «ماجنسيتك؟ أجاب: سوداني، وعندما أردف السائل ذلك بسؤال آخر «أقصد السؤال عن قبيلتك؟» قال البطل «لايهمني أن أنتمي لهذه القبيلة أو تلك، فكلنا سودانيون يضمنا هدف واحد، هو تحرير بلادنا من سيطرتكم». وكذلك أشعر الشعراء وتغنى المطربون بذلك التمازج نبذاً للفرقة والشتات، إذ أشعر وتغنى شاعرنا الفذ «الخليل»برائعته الخالدة: عازة في هواك.. عازة نحن الجبال وللبخوض صفاك ..عازة نحن النبال وتغنى آخر: جعلي ودنقلاوي وشايقي ايه فايداني غير نحلة فراق من أخوي فارداني يكفي النيل أبونا والجنس سوداني وتغنى كروان الحقيبة الراحل المقيم بادي محمد الطيب، برائعة الشاعر يوسف مصطفى التني «في الفؤاد ترعاه العناية» والتي تقول بعض أبياتها: نحن القومية النبيلة .. ما بندور عصبية القبيلة تربي فينا ضغائن وبيلة .. تزيد مصائب الوطن العزيز مالي مال تاريخ القبيلة .. نحن شعبة وحيدة وأصيلة علمونا جديدة وقبيلة .. كأمة واحدة بوطن عزيز فلنتذكر أيها الأحبة ذلكم الإرث العظيم، والذكرى تنفع المؤمنين، وفوق ذلك فلنتذكر ونعمل بقول المولى عز وجل «يا أيها الذين آمنوا إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير»صدق الله العظيم، سورة الحجرات الآية (13). •مستشار اقتصادي.