عرضنا في الحَلقةِ السَّابقة الجانب اللُغوي لمشروع الشاعر محمد الحسن سالم (حميد) الذي لم يكتمل بعد! وأضحنا أنَّ لغة المشروع كانت بمثابة كائنٍ حيٍ ينبع من سواحل نفس الشاعر البشرية، ويتفجر في شكل براكينٍ، معبراً عنما يجيش بدواخل الأفراد والمجتمعات التي كان مهموماً بقضاياها الحياتية، وحقوقها الإنسانية المشروعة علي أديم هذه الدار الفانية. ونصطحبك اليوم أيها القارئ الكريم لمشاهد الحلقة الثانية والأخيرة عن شخصيات المشروع المحوريَّة، المتمثلة في نُورة، وعم عبد الرحيم، وست الدار بت أحمد، والزين ود حامد، وعيوشة. وفي إطار هذه الصحبة نوثِّق للبُعد التنموي للمشروع، الذي بلوره الشاعر حميد ببراعة نادرة في قصيدتي «سوقني معاك يا حمام»، و»أرضاً سلاح»، وكان يحلم أن يرى ثمار ذلك البُعد التنموي في واقع «بلد صمي، وشعب واحد، عصي على الانقسام». شخصيات المشروع المحورية بعد أن أبرز حميد قضية مشروعه الكلية في قصيدة نورة، وقصائد أخرى مشابهة للغرض ذاته، انتقل إلى تفاصيل الحياة السودانية الزاخرة بمعاناة الغلابة في صور شخصيات اختارها بعناية فائقة؛ لتعطي نماذج حية لذلك الواقع، وأكد أهمية ذلك الاختيار الحسن في الحوار التلفزيوني الذي أجرته معه الإعلامية اللامعة نسرين النمر. ويأتي في مقدمة تلك الشخصيات عم عبد الرحيم الذي يصفه الشاعر بقوله: كت فلاح في يوم في إيدك تنوم... على كيفك تقوم... لا دفتر حضور ... لا حصة فطور ... تقرع بالقمر... تزرع بالنجوم... لكن الزمن دوار آ بدوم... الدنيا أم صلاح... تبدأ من التُكل ... من حجة صباح ... في حق الملاح ... في اللبس الجديد ... في القسط القديم ... وبيناتن عشم ... في الفرج البعيد». ثم يعضد حميد ذلك الواقع باصطحاب أمونة، التي كانت مقدرة للظروف والحال الحرن، عندما خاطبت زوجها عبد الرحيم، قائلة على لسان الشاعر: «النعال والطرقي انهرن ... ما قالتلو جيب ... قالتو شيلن يا الحبيب غشهن النقلتي والترزي القريب.» فأجابها عم عبد الرحيم بعبارات مثقلةٍ بهموم الواقع الكئيب، ومقدرةٍ لمشاعر زوجته المثالية: «بس يا أم الحسن طقهن آبفيد !! طقهن آبزيد !!انطقن زمن... وإن طق الزمن ... لازمك توب جديد وبي أية تمن ... غصبًا للظروف والحال الحرن ... شان يا أم الرحوم ما تنكسفي يوم لو جاراتنا جن ... مارقات لي صفاح أو بيريك نجاح ... ده الواجب إذن ... وإيه الدنيا غير لمة ناس فى خير، أو ساعة حزن.» وبعد هذا المشهد التوافقي الحزين تمضي القصيدة بوتيرة صاخبة، صابةً جام غضبها على مسالب الوضع الاقتصادي التي حولت حياة الكادحين والغلابة إلى حجيم. وعند هذا المنعطف يعلو صوت الشاعر التحريضي قائلاً: «في هذا الزمن تف يا دنيا تف... يا العبد الشقي... ما اتعود شكي ... لكن الكفاف فوقك منتكي... والسوق فيك يسوق حالا ما بتسر.... إلا كمان في ناس فايتاك بالصبر.... ساكنين بالإيجار لا طين لا تمر... واحدين بالإيجار ما لا قين جُحر... سلعتم الضراع والعرق اليخر... عمال المدن ... كلات الموانيء... الغبش التعاني... بحارة السفن ... حشاشة القصوب ... لقاطة القطن ... الجالب الحبال... الفطن الفرن الشغلانتو نار والجو كيف سخن... فرقاً شتى بين... ناس عيشا دين... مجرورة وتجر... تقدح بالأجر... ومرة بلا أجر... عيشهم كمهو... وديشن هان قدر.» وتتضاعف قيمة الحزن والكآبة بمتوالية هندسية عندما يلقي محامي الوطن، المجسد في شخص عم عبد الرحيم، ضوءاً ساطعاً على الصور المتناقضة والمستفزة، قائلاً: «وناسا حالَ زين مصنع مصنعين ... طين في طينو وين؟ ما مرابا مُر ... بارد همها لا يعرق جبين لا وشاً يصر ... عين والله عين ... كلها كمها عزها هان قدر ... في الجنة أم نعيم ... في الجنة ... أم قصر ... يا عبد الرحيم ... إلا ورا القبر ... يلكد في الحمار ... لا تسرح كُتر ... وإن كان الفقر ... يا عبد الرحيم ... أشبه بالكفر.» وهنا تبرز قيمة من قيم الصراع الطبقي، لذلك نلحظ أنَّ الرفاق قد أتحفوا بقصيدة عم الرحيم، وهي واحدة من القصائد التي جعلتهم يصفوا حميد باليسارية، دون أن يدركوا أن يسارية حميد يسارية بلا ضفاف، منداحة للناس أجمعين، مادامت معاناتهم مرتبطة بأساسيات الحياة القائمة على المأكل، والمسكن، والمشرب، وبقية المسائل الخدمية الضرورية. وإذا انتقلنا من مآسي عم عبد الرحيم إلى مشهد آخر، نلحظ أنَّ الجوابات المتبادلة بين ست الدار بت أحمد والزين ود حامد تعطينا أكثر من رسالة، ترتبط في جوهرها بتشكيل الوعي الجمعي لقضايا المعاناة في الريف والحضر، وتفضح الحاكمين الظالمين، ثم تدعو المظلومين إلى مواصلة النضال الشريف في سبيل إرساء قيم الإنسانية الحقَّة، بعيداً عن إفرازات الزمن الجائر. ونستشهد في هذا المضمار بالرسالة التي بعثتها ست الدار بت أحمد من أطراف الريف القصي إلى ساحات البنادر، حيث يقيم زوجها الزين ود حامد، شارحة له الحال في البلد باستفاضة، وحاثَّة إيَّاه على العودة إلى الجذور إذا كان «أصلوا كتالك ياهو كتالك». وتبين الرسائل المتبادلة أن اهتمام حميد لم يكن محصوراً في قضايا التهميش في الريف، ولكنه كان يرى أن حال المهمشين في الحواضر أشبه بحال إخوانهم وأخواتهم في البوادي والأرياف، وذلك استناداً إلى كسبهم المتواضع، الذي جسده الشاعر في مأساة عم عبد الرحيم، والزين ود حامد، وآخرين. وعند هذا المنعطف تخاطب ست الدار بت أحمد زوجها الزين ود حامد قائلة: نحنا نصاحاً زي واطاتنا نحنا نصاح إلا القراص والتجار والحاصل البحصل كل صباح شتلاتك قبضن الحملان كبرن بلحيل العضمين الروكة انزرعن **** البرسيم طهرنا البارح نعجة راشد صبحت والدة الحيضان سقناهن لوبي التومات طيبات ونصاح راشد طيب كل الناس يا الزين طيبين ينشدو منك في الافراح وفي الاتراح الزين الزين ما تشغل بالك بس يا الزين كان درت مشورتي اصلو كتالك ياهو كتالك تجي مندلي الوطه تراها وبي جاي جاي.. بندبر حالك أما النموذج الآخر فيتمثل في جواب الزين ود حامد إلى زوجته ست الدار بت أحمد الذي يصور عنت العسكر وتسلطهم إلى درجة بلغة حد الرقابة على الرسائل الخاصة (جاني جوابك مفتوح شارع)، ثم يصف سياسة الخصخصة التي تبنتها الحكومة حسب وصفات البنك الدولي، وكيف أسهمت تلك السياسة في تشريد العاملين، وكيف كانت الشرطة مستبدة في تكميم أفواه المعارضين، وإشاعة الخوف والفزع في نفوسهم. ويعكس الجواب من زواية أخرى ملكة حميد الشاعرية في تجييش الوعي الجمعي ضد أنظمة القهر والاستبداد. ومقاطع خطاب الزين التي نوردها أدناه شارحة لنفسها، ولا تحتاج إلى مقدمات أفضل وأرشد من نصوص الشاعر المحكمة في تصوير المشهد المأساوي. ست الدار بت أحمد كيفك جاني جوابك مفتوح شارع جاني جوابك وأنا بتذكر في ناس راشد والتومات في الشتلات والحالة عموم ناس حلتنا التحت .. الفوق الليهم الله وعيشة السوق **** ست الدار سامعاني يا أخيتي، ومرتي، وأمي، وأم الكل أنا بندهلك من شارع الله .. فوقي هجير والتحتي بقل سبي معايا الشردو راجلك .. والحرمونا شوية الضل سبي الحالة العالة علينا .. حتى أحكيلك بالتفصيل *** حاصل الحاصل يا بت أحمد جانا وفد في المصنع زاير .. وكان الوفد ده أمريكاني لفّ وفات اليوم التاني جانا مدير المصنع فاير وشو حمار العمدة العاير نف المصنع فيهو خساير وقالوا يخفضوا مئتين عامل مئتي عامل في فد مرة مائتين عامل .. مائتين عامل يبقوا هوامل .. يبقوا هوامل ؟؟ ما يهموش .. الهم المصنع تفّ قرارو وفات في حالو مسؤولين ونقابيين ما في العارض واللا اترجى العمال من سمعوا احتجوا ... سيرو موكب صامد وصامت اتضامنا معاهم سرنا .. أب عرام دور عربيتو .. العربية الأمريكية زنقح خلا الموكب ثابت احتجينا مع الاحتجو اتكلمنا كلام موضوعي قلنا المصنع حق الدولة .. والعمال أصحاب الحق هي اللي تقرر والتتولى هي البتحدد سير المصنع إيد العامل هي العاد تنتج ما المكنات الأمريكية زيت العامل ياهو البطلع .. مو المكنات الأمريكية ودرن الأيدي العمالية أنضف من لسنات الفجرة ودين الدقن الشيطانية ومن كرفتة البنك الدولي .. وكل وجوه الراسمالية *** داك الحين المصنع هاج جات عربات اللات بوليس .. فضوا العالم بالكرباج والبمبان الأمريكاني شرقت شمس اليوم التاني كنا حداشر ونوباوية متهمنا بالتخريب والتحريض والشيوعية البوليس صاقع شيوعية وفاكر نفسو بنبذ فينا هي آ بوليس أمك مسكينة البوليس عمدني شيوعي التحقيق طلعني مدان التحقيق طبعاً تحقيقهم أو تحقيق الأمريكان أسبوعين عشناهم جوه أسبوعين زادننا قوة ست الدار ما تشفقي خالص ست الدار أنا ياني الزين ست الدار سامعاني كويس ؟ كل الهم ما يغشى الغم ... بيتنا وراشد والتومات وكل الناس الحالهم شاهد ست الدار الشوق الواحد لي حلتنا وليكم ليكم وللإشراق في عينيكم وكل الناس الزولهم صامد شوق وسلام الزين ود حامد أما الشخصية الرابعة التي كان لها حضور مؤثر في منشورات حميد وعرضحالاته الشعرية فهي اللقيطة عيوشة: «الليل هديماتا ... شمش الله برطوشة ... تشرب من الشارع ... وتاكل من الكوشه». وعند هذا المشهد المشحون بآهات المعاناة تبرز المشكلة الأخلاقية بوضوحٍ سافرٍ، وتقف مؤسسات الأمن الاجتماعية عاجزة عن العطاء، وصون حقوق المشردين. فدار أطفال المايقوما تشكل طرفاً من القضية بشقيها الأخلاقي والإداري. أما الطرف الآخر فيتمثل في واقع الذين شردتهم أهوال الحروب، ودفعتهم ظروف المعاش الضامرة إلى التسكع في شوارع المدن، فأطلق عليهم العامة مصطلح «الشماسة». وقف حميد حزيناً عند هؤلاء، وعند واقعهم المنكوب، ثم رسم لهم لوحة معبرة بحجم مصيبتهم، وكآبة مستقبلهم المرجو، ولسان حاله يقول: باكر تلاقيهن .. في وجبة فوق كوشة جنب مجرى يحكولك ودونا لي ضابط .. كالعادة وانكفرن قال وين أوديهن والعندي ما قادر بالموية أكفيهن والعسكر أدونا سوطين وفكونا كالعادة يا أخونا .. حيكومة مربوشة دايرين شغل .. مافيش غير نغسل العربات غير نضرب الاورنيش عتالة .. جرسونات .. شغلاً ما يوكل عيش وبالحالة دي الكشة بلدية والبوليس ... مرات يجيك الديش ما يقبضوا الباعوض .. ما يقبضوا الضبان .. والما بدور فتيش الارزقي السمسار .. اشمعنى نحنا وليش إحنا الحراميه ولا البدسو العيش الزول يخاف يكفر .. يرجع يقول معليش شقيش نقع شقيش .. حتى السجن مافيش هكذا كان الرائع حميد يختار شخصيات مشروعه الشعري بعناية فائقة، وينسج خلفها لوحات موحية بالظلم، والاستبداد، والفقر، وضيق ذات اليد، ثم يجعل تلك الشخصيات تتحرك بحرية كاملة على مسرح الأحداث، الذي يُعج بمشكلات أهل السودان، وبذلك يحاول أن يخلق وعياً جمعياً من خلال السرد القصصي للنصوص الشعرية، ومضابط الحوار بين أطراف القضايا المطروحة. ثم بعد ذلك تعلو نبرة النص المُعرِّية لسوءات النظام الحاكم، الذي يتصدره يوماً «العسكري كسار الجبور»، ويوماً آخر «باسم النبي تحكمك القبور». وعند هذا المشهد الدرامي يضحى المزاج العام مهيأ لتحريض الشاعر، الذي يهدف إلى إسقاط الأنظمة الحاكمة الظالمة، ويسعى إلى تنصيب بديلٍ آخر، يكون قادراً على الوفاء باستحقاقات ست الدار بت أحمد، وعم عبد الرحيم، وعيوشة، ونورة التي «تحلم بي عوالم ... لا مظاليم لا مظالم». أنه حقاً مشروع جمهورية أفلاطون، وحلم مدينة الفارابي الفاضلة. أبعاد المشروع التنموية عندما قرأتُ قصيدتي «سوقني معاك يا حمام»، و»أرضاً سلاح» انتابني شعور صادق بأن حميد قد وقف على طرفٍ من مضابط الحوار الذي أجراه الدكتور محسن محمد صالح مع الدكتور محاضير محمد (رئيس وزراء ماليزيا الأسبق)، عندما سأله عن سر نجاح التجربة الماليزية، فأجاب المسؤول قائلاً: «في ماليزيا لدينا اختلافات دينية، وعرقية، وثقافية، ولغوية، ولدينا تباينات اقتصادية، ولكننا اعتبرنا أن أهم شيء للتطور هو تحقيق الاستقرار الذي يقوم على التسامح فيما بيننا ... ثم قررنا أن نشرك الجميع في السُّلطة والثروة ... لأنك لا تستطيع أن تستحوذ على كل شيء لنفسك ... وإذا حاولت أن تفعل ذلك فسيكون هناك عدم استقرار وفوضى، ولن يتحقق النمو الاقتصادي ... أما عندما تتحقق مشاركة الآخرين، فإنهم سيشعرون أن لهم نصيباً في السُّلطة والثروة ... أما باقي الأمور فهي مسائل إدارية، تحتاج إلى تخطيط حاذق يقوم على الخبرة والكفاية المهنية.» فقصيدة سوقني معاك يا حمام من القصائد المفتاحية في مشروع حميد، الذي ينشد الأمن والاستقرار في السودان، ويعتبرهما لبنتين أساسيتين للنهوض بالوطن الجريح، الذي أفسدت الحروب ودَّه، وجعلت شطريه الشمالي والجنوبي في حرب مستعرة، أقعدت الناس عن العطاء، وجففت مواعين البلد من الإنتاج. فكان هدفه المنشود في ذلك الواقع المشحون بتداعيات الحرب يتبلور في قوله: «سوقني محل ما المحنة ... وأيادي تقطر سلام ... سماحة الحياة فوق أهلنا ... وبلادي تقرقر وئام ... درب من دم ماب يودي ... حرِب سُبّه حرب حرام ... تشيل وتشيل مابِ تدِّي ... عُقب آخرتا إنهزام ... أخير كرّاكةً بتفتح ... حفير وتراقد الركام ... أم الدبابة البتكشح ... شخير الموت الزؤام ... تعالوا بدل نبني ساتر ... نخيب ظن الصدام ... نطيَّب للعازه خاطر ... نقوم لي لأطفالها سام». ثم ينتقل من هذا المشهد التصالحي إلى وصف واقع الموارد الطبيعية والبشرية التي تستند إليها التنمية في السودان، قائلاً: «فقارى ولكن غنايا ... غنايا بهذا الغمام ... بهذا النيل كم تغايا... وتيرابناً نرميهو قام.» ثم يواصل نداء التعمير والبناء القائم على التعاون، والتعاضد، والتفاني، قائلاً: «ما طال فى بحرك في مىِ وتمرك مفدع بالجريد ... شدرك إمد حد السمي طيِنك معتق بالطمي ... نبنيك أكيد نبنيك هوا ... نبنيك ايوا سوا سوا ... منو وجديد نبنيك جديد ... يا إيد أبوي على إيد أخوي، على إيدى أنا ... على إيد وإيد تجدع بعيد فى اللجة من رأس ميضنة ... حيكومة الفقر الكجار الكُضُبُن والصهينة ... واللى نقاص أيامنا جات ... اليالطيف سوس البحر نرجم قفاهو حجر حجر ... من ها الرصيف الما قدر قدام سريحة الموج يقيف ... آمنا بيك وموحدين ... في إيدنا فاس وقلم رصاص شتلة كمنجة ومسطرين ... وطبنجة في خط التماس حراسة من كيد البكيد ... ضد الرصاص والإنتكاس ... نبنيك جديد واشد باس.» ثم يرى أن ذلك المسعى لا يتحقق إلا في ظل نظام ديمقراطي، يتواضع الناس عليه، ويشدوا من أزره، ويصونوا عقدهم الاجتماعي مع الحاكمين، ولسان حالهم يقول: «أرضاً سلاح أرضاً سلاح ... لو نتحد ضد الجماح ... نبني الديمقراطية صاح ... نبنيه صاح وطن البراح ... وطنا مجير، لا مستجير، لا مستبد، لا مستباح ... أرضاً سلاح ... أرضاً سلاح.» خاتمة نعم أنَّ مشروع حميد لم يكتمل بعد؛ لكن عدم بلوغ نصابه لا يمنعنا القول بأنه خرج من صلب قضية سكن الشاعر في عمقها، وجثم بين أحشائها، كما يقول الدكتور توفيق الطيب البشير، و»رسمها شعراً، وزينها فكراً، وعطرها برائحة السلام، وزينها بأحلام» يستحيل تنفيذها إلا في دواوين «دولته الفاضلة التي جاهد من أجلها، ومات دون أن يستمتع» برؤيتها وهي قائمة على سُوقها. نعم، كما يرى الدكتور عبد الرحيم عبد الحليم، أنَّ حميد وُلُد عام الاستقلال (1956م)، ورحل في «أزمنة الحزن والانفصال»، وهو غير راضٍ؛ لأنه كان يحلم بي «بلد صمي وشعب واحد عصية على الانقسام»؛ لذلك ضاقت قاعدة دولته الافتراضية الفاضلة قبل أن يأخذ تأشيرة رحيله إلى الدار الآخرة على طريق شريان الشمال؛ لأنه كان يريد أن ينفذ ذلك المشروع على أرض السودان الموحد، تلك الأرض التي وصفها ب»مخلاية التعب ... مصلاية العشق الصعب ...ما بتستباح». ولذلك، كما قال الأستاذ عبد الله الشقليني، «ولما أحزنه واقع القابضين على أحلام الوطن، والموتورين بالحروب، امتلأت عيناه بالدمع المالح، وأحسّ بخذلان مشروع الوحدة الذي أحب فيه السودان وطناً متنوعاً، يتسع لأهله بكلِّ أطيافهم.» ألا رحم الله الشاعر حميد رحمة واسعة بقدر ما كان محباً للسودان وأهل السودان.