دخل شهر القرآن والتلاوة ورائحة مشروب الحلو مر تفوح من البيوت، ومعها تفوح وسط مجالس الإسلاميين الذكرى الحادية عشرة لقرارات الرابع من شهر رمضان تاهت خلالها معالم المشروع الحضاري الذي ذاع صيته وسط الحركات الإسلامية العالمية حتى باتت مشفقة على تجربة السودان من عوامل الانهيار والتصدع داخل أركانه ونظامه الخاص. وحدث ما لم يكن أحد يتوقعه أن يسجن من تحابوا في الله وتواثقوا على ثبيت شرعه فى البلاد من كانوا معهم في الخنادق يقتسمون الهموم والسهر والحُمى ويتسامرون بالأشواق للفوز بالجنة والزواج من الحور العين، قبل أن تشير أصابع الاتهام الى الشيخ حسن عبد الله الترابي بأنه يقف وراء الأزمة في دارفور ومن خلفه الدكتور على الحاج وبعض الذين انضموا اليه بعد أن صار التصنيف: هل تنتمي الى المنشية حيث يقطن الشيخ أم القصر الذى تخرج منه المراسيم الرئاسية؟ لكن الخلاف الذى عصف بالمشروع والآمال والمستقبل المشرق المرسوم في مخيلة الكادر الإسلامي لم يتطور الى حرب مدن وعصابات واغتيال تضيع معه معالم الجريمة وتدوّن ضد مجهول، على الرغم من بعض الحالات التى لا تتجاوز أصابع اليدين، وذلك مما يحسب لصالح الطرفين؛ إذ كان بمقدور كلٍ منهما أن يحرك مخزونه العسكري من الجنود والسلاح والمعلومات ولكن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها وذلك لا يمنع مبررات التغيير إن وقع في مستقبل الأيام بواسطة وسائل متعددة منها الخارجية وبعضها داخلية. وحقن الإسلاميون دماء بعضهم البعض وهم الأشداء في ساحات الوغى ولهم من التاريخ عبرة، فانتبهوا. وعلى الرغم من انقطاع الاتصال السياسي مابين المؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني منذ أن وضعت قيادة الأول شروطها لاستئناف الحوار إلا أن الجسور الاجتماعية مازالت موصولة بالحسنى وأشواق الرجوع للحق والفضيلة والمبادئ، كلٌ منهما يتمسك بموقفه ويريد من الطرف الآخر أن يعلن التوبة ويقلع عن الذنب. أصحاب القصر والسلطان لا يريدون أن يهدوا أركان الدولة التي بذلوا فيها الغالي والنفيس بحسب اعتقادهم ويجزمون بأنهم لن يسلموا مقاليد الحكم إلا للنبي عيسى (عليه السلام) حينما يأتي في آخر الزمان يكسر الصليب ويقتل الخنزير الذي أصاب العالم بالأنفلونزا، تارةً يلوحون بفوزهم في الانتخابات ويشنون على الأحزاب هجوماً كاسحاً ويصفونها بالبائسة والحائرة، وتارةً أخرى يتباهون بعناصر القوة ومقدرة الاختراق وجلب المعارضين الى البلاد واحداً تلو الأخرى. بينما يرى الشيخ الترابي ومن سار على دربه أن إخوان الأمس فارقوا منهج الحريات ولم يلتزموا بعهد خطة التمكين وخالفوا أصول الدين، وله فى الشورى مثال، ويستدلون بأن الأيام دول والعاقبة للمتقين. ومابين الطرفين ينتظر أصحاب الأشواق، الذين يطلقون على أنفسهم مسميات تنظيمية مختلفة، أن تعود تلاوة الشيخ عبيد ختم تملأ أركان مسجد جامعة الخرطوم عند قيام الليل وصلاة التراويح والتهجد فيبكى الناس خوفا من رب الناس ويستعيذون من الوسواس الخناس. لكن الإحباط يطل عليهم بين الحين والآخر فقد يئسوا من الانتظار على طول الرصيف، وكأن قطار الحركة الإسلامية بشقيها ما عادت طاقته تتحمل ركوبهم مجددا. وصارت التساؤلات تطاردهم: هل يصبحون في مستقبلها تيارا عريضا ينافسهما في المقاعد الانتخابية أم أنهم سينزوون عن السياسة ويكتفون بأداء دورهم في الحياة من دون فهم حركي؟ وترى بعض الأحزاب السياسية أن الحركة الإسلامية بعد انقسامها أدخلت البلاد في مأزق خطير ووضع سياسي لم تألفه ما قبل أن ينال السودان استقلاله في العام 1956، حتى أطلقت دعواتها الساخرة (دعونا في موقعنا ما قبل يونيو 1989م، فنحن لا نريد إنقاذا) فى إشارة الى الوضع الاقتصادى والسياسي والأمني المتردي حينما جاء الإسلاميون للحكم بغرض الإصلاح أو كما تقول أدبياتهم (حنشيد نحن بلادنا وحنفوق العالم اجمع). وتنسب تلك الأحزاب الى طرفي الحركة الإسلامية تدهور الأوضاع في دارفور وتقول إن حربها التي اندلعت في العام 2003 هي إحدى إفرازات الصراع الذى انتقل لأطراف البلاد بغرض اقتلاع النظام من خلال نظرية (شد المركز الخرطوم من الأطراف)، ويرى بعضها أن حل الأزمة سيكون حينما يعود الفرقاء الاثنان الى بعضهما البعض ولكن من دون العودة الى شموليتهم القابضة. ويقترحون ملتقىً جامعا ووفاقا وطنيا ومؤتمرا دستوريا، مسميات متعددة لهدف واحد عساها تخرج السودان من أزماته، أو كما يقولون. وهذا على خلاف تصريحات الفرحة والنشوة التى انطلقت من أفواه أحزاب سياسية، ظنت أن الانقسام وسط الإسلاميين القابضين على زمام الأمور سيعيد اليهم مقاعد حكم فقدوها قبل عشرين عاما حينما انتخبتهم الجماهير فسموا أنفسهم ( بالشرعيين) بعد قيام ثورة الإنقاذ بغرض التمييز الإيجابي، إلا أن مرور الأيام وتوقيع الاتفاقية بعد الاتفاقية في أبوجا ونيفاشا وأسمرا والقاهرة جعل المعارضة المسلحة والسياسية للإنقاذ تفكر بطريقة أخرى فولت وجهها صوب المنشية لتجعلها قبلة سياسية بعد أن رأت فيها معارضة صارخة للنظام وكادوا أن يقولوا إن السفهاء سيسألونهم: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ إذ أن الخلاف بين الإسلاميين في ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب وهو ليس خيرا محضا، وباتوا يشتكون من عدم تنفيذ البنود. هكذا شغل الخلاف أحزاب البلاد السياسية والقوى الاجتماعية والمنظمات، بل وتأثرت دول الجوار بذلك فصارت واحدة منها عدوا للسودان، بعد أن جاء رئيسها بدعم من الحركة الإسلامية، وأضحت حدودها ملتهبة لا تكاد تخبو نارها وأراضيها ملاذا امنا لمن ينشدون تغيير النظام. يذكر أن عدداً من قيادات الشعبي كانت قد انضمت منذ ذلك التاريخ للمؤتمر الوطني وأبرزهم عمر سليمان وخيري القديل والتجاني سنين وعيسى بشرى وحاج ماجد سوار وخالد الضو وزهير حامد وبدر الدين طه «قبل أن يترك المؤتمر الوطني». وتضيع وسط الزحام تصريحات لقيادات بالمؤتمر الوطني والشعبي حول إمكانية الوحدة واندماج الطرفين مرة أخرى بعد التئام جرح الرابع من رمضان بخطوة أولى تبدأ باستئناف لجان الحوار ورأب الصدع لعملها ريثما تطلق السلطات الأمنية سراح المدنيين من كوادر المؤتمر الشعبي المحكومين بعشر سنوات وخمس عشرة سنة داخل سجن كوبر، وكذلك بعض المعتقلين والمحتجزين على خلفية قضية دارفور. مع الاستجابة لشرط آخر هو رد ممتلكات كوادر المؤتمر الشعبي، لكن بعض قيادات المؤتمر الوطني تبدي خشيتها من أن يعود المفرج عنهم الى ساحات القتال بدارفور ويمنعون التوصل الى تسوية سلمية والتوصل الى اتفاق شامل وجرى تصنيف بعض كوادر المؤتمر الشعبي على أنهم ينتمون لحركة العدل، وهذا ما يبقى مستنكرا عند هؤلاء المسجونين الذين ينفون تلك الاتهامات. وجاء رمضان بكل خيراته وبركاته يهذب النفوس من شوائب علقت بها وهى تسعى في المجالات السياسية والاقتصادية والفنية لتحقيق مأربها، فهل ينتبه المنضوون تحت لواء الحركة الإسلامية الى معان إصلاح ذات البين ويصلحون ما أفسده الخلافات؟ لماذا لا تنجح المبادرات في طي الأزمة التي تجاوزت عامها العاشر وتخطو بالسودان الى مالا يحمد عقباه؟ بعض المحللين يربطون بين وحدة الإسلاميين وقيام الانتخابات ويرون أن كل طرف كان يريد أن يؤكد من خلال إعلان نتائجها في شهر أبريل الماضي بأن وجهة نظره هي الصحيحة، فالدولة تسير من غير توقف بعيدا عن الشيخ الترابي بل ويستطيع الحزب الحاكم أن يفوز بأغلب مقاعد المجلس الوطني وولاة الولايات، والشيخ يجمع من حوله الأحزاب لهزيمة المؤتمر الوطني ورئيسه انتصارا للمبادئ التى فارق من أجلها، فأي الفريقين أحق بالفوز؟