التقيت لأول مرة كفاحاً بالدكتور لام أكول أجاوين لمّا كان وزيراً لوزارة النقل، وكان يزورنا في مناسبة اجتماعية، زواج ابنة خالتنا التي كان يعمل والدها بوزارة النقل. حاولت أن أتجنب مجلسه يومئذ، حيث لم يجف بعد مداد مقالي الذي اتهمت فيه الدكتور لام أكول بأنه هو الذي قتل ابن خالتي. كنت يومها أعمل لحساب الأستاذ حسين خوجلي بصحيفة ألوان، وكانت ألوان قد أفرزت في تلك الأيام خطاً غليظاً باللون الأحمر تقول فيه (إن لام أكول يخطط للعودة إلى الغابة)، وعلى إثر ذلك المقال سيقت الزميلة الأستاذة هدى علي ورئيس التحرير إلى نيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة، وكانت المعركة على أشدها بين الدكتور أكول وصحيفة ألوان، وذلك مما دفعني إلى أن أخرج من (حقيبة الأحداث) حادثة إسقاط طائرة الخطوط الجوية السودانية من قبل مجموعة الناصر، التي كان يقودها الدكتور لام أكول، وكان من بين طاقم تلك الطائرة ابن خالتنا المضيف الشهيد صلاح الدين علي الخليفة، عليه وعلى رفاقه منكوبي تلك الطائرة الرحمة والغفران، فكان نصيبي من تلك المعركة المفتوحة يومئذ بين صحيفتنا والدكتور لام أكول، كان نصيبي أن أفتح ملف تلك الطائرة التي اصطادتها مجموعة الناصر في سماء مدينة ملكال، ومن ثم وجهت تهمة الاغتيال مباشرة لزعيم المجموعة القائد لام أكول. كان لام أكول ساعتها يجلس وسط الخيمة الوسيعة التي نصبت لتلك المناسبة، ويتحلق حوله بعض منسوبي الوزارة، وفوجئت بأن أحد أقاربنا ينهض ويقدمني، فما كان من الرجل إلا أن ينهض من كرسيه بصورة دارماتيكية ثم يقول (يا أبشر أنا شخصياً قتلت ابن خالتك)، وأذكر أنني قد قلت له: (أنت الآن يا دكتور تزورنا في بيتنا)، فلهذه الزيارة والمناسبة أحاديث تختلف عن أحاديث ميادين الصحافة والسياسة والقانون، فمرحباً بك ضيفاً كريماً. ثم لم يلبث أن (وقع الحدث) بعد أيام من تلك المناسبة، لام أكول يدخل الغابة، وتصدق حيثيات ألوان، وكان ذلك هو الخروج الأخير للدكتور لام أكول الذي أعاد عبره علاقته بالحركة الشعبية وقائدها الراحل جون قرنق، ومن ثم أتى إلى الخرطوم مرة أخرى على متن اتفاقية السلام كجزء أصيل من مكونات الحركة الشعبية لتحرير السودان، بل ومن طلائع مثقفيها وكوادرها القلائل الذين لهم تجارب تؤهلهم لشغل الحقائب الوزارية، وذلك بدليل أن الحركة في بادئ الأمر قد أسندت للدكتور أكول أخطر وأهم وزارة، وزارة الخارجية، ثم لم تلبث أن ضاقت الحركة ذرعاً من إخلاص الرجل لوزارته، قبل أن يضيق هو ويخرج عليها ليؤسس نسخة (لحركة شعبية أخرى). ونسجل للدكتور أكول مرافعته الجهيرة عن أفكاره الوطنية وذلك لمّا قال (لأولاد قرنق)، إنه وزير لخارجية دولة السودان وليس وزيراً لحزب الحركة الشعبية، وقال عن تنفيذ الاتفاقية (إنها لا يمكن أن تنفذ بالمسطرة)، فوصمه البعض بأنه (عميل للمؤتمر الوطني)، ثم تضطر الحركة الشعبية الآن لاستمالة رجل الشلك القوي، قبل أن تذهب إلى تسوية انفصالها، فأثبتت الأيام والتجارب أن لام أكول ليس هو القائد الذي يتمنى أحد تجاهله وعداءه، فهو قائد فصيل إذا ما أشهر سيفه فإن عشرات الآلاف من السيوف تشهر بين ملكال وجوبا، ولا ذلك الرجل الذي يمكن أن تتركه الحركة وراء ظهرها وتذهب لتقرير مصيرها، وذلك ظناً منها أنه يمكن أن يستخدمه الشمال إذا ما ذهبت الدولتان المرتقبتان في حالات عداء، لكن رجلاً بقامة وتجربة لام أكول لم يكن بمقدور أحد في الشمال ولا في الجنوب أن يستخدمه لصالحه، فالرجل وحده أغلبية، ويعرف مقدراته الأبعدون من الغربيين، وربما كان رجلهم للمستقبل لإدارة ملف القرن الأفريقي بأكمله. غير أن الشمال الكبير لن يخسر في الحالتين، فالرجل أكول يمتلك من العقلانية، على الأقل التي ظهرت في مواقفه الأخيرة، ما يؤهله ليكون جسر سلام بين الشمال والجنوب. والله أعلم