والأغنية بلا طرب ضروري تخبرك بأن (السمك ده في الموردة)، فتكون بمثابة إعلان غير مدفوع القيمة لشارع الموردة، ومحال السمك الممتدة على طوله، تغريك بأن تأتيها زائراً لهوائها أو غائراً على صيجان السمك تختار ما توده بصحبة السلطات والشطات! وشاطئ النيل المرافق الملازم للموردة وأسماكها - وبالضرورة ناسها - يتعطر بعطرين أساسيين؛ هما رائحة السمك عقب خروج أحشائه من البحر، ثم قبل دخوله إلى أحشاء البشر، والمارّ به لا محالة يصيبه من ذاك العطر جانب، وسبحان الله هناك تحس بأن الجو مقسوم إلى نصفين لرائحة واحدة! رغم أن للسمك أنواعاً متعددة جداً تبدأ من (البلطي) إلى (الصير). وما صار في سوق السمك الطازج - نيئاً وناضجاً - في الخرطوم، أنه يحاول الفكاك من هيمنة الموردة، باعتبارها المورد الرسمي له، حتى الآتي من جبل أولياء لأسباب تتعلق فقط بالتقاليد السودانية التي يعتقدها السماكة أن الموردة هي مكان مقدس جداً لهم من ناحية الصيد القديم ومن ناحية البيع أيضاً! رغم اختلاف الزمان ودخول سياسات محلات تجارية جديدة وعديدة لا تتخذ من السمك الطبق الرئيسي في قائمتها اليومية والأسبوعية، بل تعده بجانب أطباق أخرى مهمة في نظرها لكنها تتخذ المكان ذاته – الموردة - باعتباراته المكانية المقدرة بجانب أنه من الشوارع المهمة جداً على المستوى الثقافي والفكري والسياسي حتى! وحتى السمك يحتكر معدات كثيرة لا تعترف بوجود أطباق غيره، ولعل أهمها معدة المصابين بنقص الغدة الدرقية، إذ يوصف السمك لما يحويه لحمه الأبيض اللذيذ من مادة (اليود) الضرورية لإصلاح عطبها. بجانب أنه من أهم الوجبات التي يوصي بها أطباء النساء والولادة للحوامل ليقيهنّ نقص المعادن في الجسم، لما يحويه من فيتامينات (أوميغا 3) مثلاً، وهي ضرورية جداً ولا يكمل نقصها عند الحمل إلا السمك ده! (هذا، وما يشاع لدى السماكة أن بيض السمك يحل محل حبوب الفياغرا، وأن الذين يعرفون ذلك يأتون إليهم سراً لشرائه وأكله بحسب حاجة الفرد إليه؛ نيئاً أو ناضجاً..! وطبعاً يختلف ذاك عن بيض سمك الكافيار، كأغلى مقبلات في العالم وفي السمكة!) وللسمك وصفات عدة وشهيرة على مستوى العالم كله، نصيبنا منها المعد كشوربة أو دمعة، يتم طبخه مسبكاً أو المحمر، أكثر من الوصفات الأخرى، كطاجن السمك (صينية سمك) أو السمك المشوي وهو من أكثر الوصفات صحية، وتشتهر به مدن الساحل معظمها. وكفتة السمك والبفتيك... إلخ، من قائمة طويلة يبرع فيها الطهاة لإيصال أحلى طعم للسمك. ولعل اليابان تشتهر بطبق خاص بنوع معين من الأسماك (السوشي) الذي يعتقد الطهاة أن من يتذوقه لا محالة لن يبارحه من قائمة المفضل في وجباته. وما وجب ذكره ما دام السمك سيد المكان والزمان هنا، أن دول حوض الأبيض المتوسط تمتلك قائمة طويلة من أشكال وطعوم لأسماك لا تتسع لها مساحتي الآن - ويقال إن سمك البحار أطعم من سمك النيل؛ لنسبة الملح المتوفرة في مياه البحر، التي تضيف إلى السمك لذة مختلفة، وربما جمالاً لونياً أيضاً! - ومنها شهرة (الكابوريا) كنوع من أنواع السمك ارتبط لدينا بأسمر الشاشة الفنان الراحل (أحمد زكي) في ذاك الفيلم الشهير.. لكن (للجمبري) سطوة أخرى وطعم لا يقاوم في قائمة الأسماك البحرية. والأطباق البحرية في العالم أجمعه لا تقتصر على السمك فقط، وتدخل فيها القواقع وأعشاب البحر المختلفة وأنواع الحبار... إلخ، وهي لديها خصوصية لدى الذواقة لما تتمتع به من نفحات طعم لا تخفى رائحتها. ورائحة السمك تتغلغل حتى في ثقافتنا التي تعتمد في واحدة من فقراتها المميزة (الجرتق) على جزء مهم من السمك، وهو عظم متوسط يؤخذ من منطقة الرأس في السمك، ويوضع كواحدة من التمائم المربوطة على أيدي العرسان وأولاد الطهور. وهناك "التالول" الجلدي الذي يتكور في الأيدي أو الأرجل لأسباب مختلفة جلدياً، نطلق عليه تعارفاً في السودان (عين السمك) و..... السمك ده في قلوبنا ورغباتنا وشهيتنا قبل الموردة!