من هامش الحياة زحف بفنه وموهبته إلى قلب الحياة ونبضها وهالتها، تدفعه إلى المجد امرأة بسيطة من عامة الشعب تدعى (أم الحسين) لم تكن تحلم بأكثر من العيش لها ولابنها زيدان، وحتى عندما تكاثرت العائلة واتسع تعدادها لم تضم إليها إلا امرأة أخرى هي شقيقتها وابنها، وهذا الأخير هو ابن خالة الفنان زيدان ورفيق دربه الوحيد، لمبدع عاش وحيدا ومات وحيدا لا عزاء إلا لجمهوره وشعبه في جمهورية الفن والمتعة والوجدان. توزع (صيوان العزاء) بين العباسية ودار اتحاد الفنانين والحاج يوسف واجتمع الناس يعزون بعضهم البعض وفنان بقامة زيدان لا يجد أما تبكيه وتتلقى تعازي الناس فيه ولا إخوة ولا أبا ولا أقارب من أي الدرجات وحتى في أيام مرضه يقولون إن الصدفة وحدها هي التي قادت محمدية وحمد الريح ليكتشفا استسلامه للمرض وللموت وهو يحبس نفسه في حجرة ببيته بالحاج يوسف في صبر جميل ورضا تام بقضاء الله وقدره وبالرغم من كل ذلك لا تغيب الابتسامة عن وجهه الوضيء ويستسهل ما يعانيه ويحتمل آلامه وقسوة المرض ولا يجزع. ظل الشعب السوداني لأكثر من أربعين عاما يسعد بأغنيات زيدان إبراهيم وسيظل يسعد ولكن المقابل لم يكن بمقدار ما قدمه وبمقدار ما ساهم به في صياغة وجدان هذا الشعب وقد انتشر فنه في كل شبر من أرضنا ويتمدد عطاؤه يلتصق بكل سوداني حملته الهجرة بعيدا عن وطنه وأقام هناك في أقاصي الدنيا وزيدان بجواره يسلّيه ويهدهده ويبكيه ويروي ظمأ الغربة برحيق كلماته وألحانه على شاكلة.. أشوف بس طرفك النعسان تخوني القوة والشدة.. ونصبر على الهجران.. والدرب المشيتو.. وداوي ناري والتياعي وتمهل في وداعي يا حبيب الروح هب لي بضع لحظات سراع.. ومين علمك يا فراش تعشق عيون القاش وغير ذلك الكثير الكثير من أروع الأغنيات السودانية، بالله عليكم كيف هو الحال وسوداني بعيد عن أهله ووطنه في بلاد الغربة وحيدا يركن إلى هذا النغم الفريد، بالتأكيد هو أكثر وقعا من تلك الأحاسيس التي تنتابنا ونحن داخل الوطن وإن صعدت بنا إلى سماوات وفضاءات لا نهاية لها. رأيت الحلنقي يبكيه ودموع حرّى تهبط منه وهي تأذن بوداع آخر ربما استدعى كل مواهب الحلنقي الشعرية وفي هذه اللحظة تحديدا دخلت في موجة تفكير عميق كيف بشاعر في قامة الحلنقي يستبدل سلاحه وأشعاره بدموعه ونحيبه ويبكي زيدان مثلما يبكيه العامة أم أن الرحيل جرد الحلنقي من أمضى أسلحته في تلك اللحظة تحديدا، وأبصرت كثيرين من هذا الوسط وهم في أضعف لحظاتهم وأنقاها وأطيبها وأصدقها وأنا أتنقل بمشاهداتي داخل مجمعهم الحزين الذي تنادوا إليه أمس الأول أضم صوتي لصوت الأستاذ الهندي عز الدين وأنادي بالتفاتة كريمة وعظيمة تجاه هذا الوسط الذي ظل يمنحنا السعادة ويسلينا ويناصر مشاعرنا وعواطفنا ويقف إلى جانبها حين تحاصرها المحن حتى لا تحاصرهم الوحدة وتستعصي عليهم الحياة الكريمة التي يستحقونها. برحيل زيدان وحياته وحرمانه ووحدته يمضي هو وعلى رقابنا ورقاب الوطن دين مستحق وحزن مقيم يسكن ضمير كل سوداني أسعده زيدان ولم يردّ الجميل وقد تركناه يحترق وألفيناه حبيسا داخل حجرته ينتظر الموت حتى مات.