لما كان الدكتور البارودي، رئيس المجلس الأعلى للثقافة والإعلام، لما كان يقدم الدعوة لزملائه وزراء ومعتمدي ولاية الخرطوم لزيارة معرض «المشروعات الصغيرة» بمعرض الخرطوم الدولي منذ نحو أيام، كان يرجوهم أن يأتوا إلى المعرض «بصفة شخصية» حتى تتفرغ الكاميرات لنقل الحدث.. ساعتها، وبرغم أن القوم، قوم الوالي الشيخ عبد الرحمن الخضر، في اجتماع رسمي، لم أتمالك نفسي، فقلت للدكتور البارودي كيف لكاميراتنا أن تُزج بمعزل عن السادة المسؤولين؟ فكما يملك الوزير والمعتمد سيارة، يملك أيضاً في المقابل كاميرا، ليصبح الخبر بعد ذلك «هو زيارة الوزير التفقدية»! أما ماذا يتفقد؟ فيبقى هذا ضرب من الدرجة الثانية غير الممتازة، ليس بالضرورة أن تكون هذه الممارسة التصويرية بأمر المسؤول، لكنها على الأقل ستكون بعلمه لأنه عند المساء حتماً سينفرج على جولاته وصولاته اليومية، وسيدرك لا محالة أنه هو لا غيره من يمتلك البطولة، وطالما أنه لم يعد في الصباح ليصحح هذه الصورة، ففي المقابل إن الذين يحملون أوزار الكاميرا لن يجرؤون على تغييرها من تلقاء أنفسهم. أذكر منذ أيام كنا نزور مزرعة قمح هائلة بخور أبو ضلوع وعندما انقلبنا في المساء وجدت أن الخبر في فضائيتنا الرسمية ليس هو القمح، وإنما الخبر هو زيارة النائب الأول ووالي ولاية الخرطوم إلى «خور أبو ضلوع»، فحرمت الشاشة نفسها ومشاهديها من الاستمتاع بذهب هذا الزمان وسلاحه الذي هو القمح. والقصص في هذا المضمار كثيرة «ومحزنة» وعلى الأقل في هذه الزيارة لم يأمر أحد بهذه التغطية الشخصية ولكن كاميراتنا كانت تمارس ضلالها القديم! فالدكتور الوزير البارودي الذي حملته الصحافة يوماً إلى كرسي الوزارة يدرك أبعاد هذه الثقافة المتوارثة وربما قد نهضت فضائية الخرطوم التي هي إحدى آلياته وأذرعه متحررة إلى حد ما من هذه الثقافة. فقد لاحظت كثيراً أن كاميرات هذه القناة تخرج من تلقاء نفسها لتغطية المناسبات على أن يكون الضيف المسؤول على هامش الحدث الذي خرجت لأجله الكاميرا. صحيح أن الفضائيات كلها في نشرات الأخبار سواء أم متفاوتة بدرجات. رأيت أن أقول إن الإعلام ظل هو حلقة الإنقاذ الضعيفة. فثورة الإنقاذ ظلت عاجزة عن إبراز مكتسباتها التي نهضت في كثير من الأصعدة، بينما في المقابل نجح مناهضوها في التركيز على «النصف الخالي من الكوب»، وذلك لدرجة الإذعان بين الجماهير والرأي العام بأن كوب الإنقاذ فارغاً كفؤاد أمِّ موسى! وعليه فإن صناعة جهاز إعلامي بازخ ظل حلماً وصناعة شاقة. فحكومتنا يمكن أن تنجح في صناعة جسر كلفته عشرات الملايين من الدولارات في أشهر معدودة، لكنها في المقابل يمكن أن تعجز في صناعة فضائية كلفتها لا تزيد من خمسة ملايين دولار. فمشروعنا الجميل أوتذكرونه؟ لا يمكن بناؤه بالسيخ والخرصانة. فالذي أعرفه هو أن «مشروعية طرحنا» ووجودنا على منابر الدولة والمجتمع هي مشروعية ثقافية وأخلاقية قبل أن تكون مشروعية خرصانية وأسمنتية. فدعونا ننشِّط ذاكرة الأفكار والتاريخ والجماهير، فكان بياننا الأول أننا امتداد للمهدي والأزهري، لكي نملأ الأرض عدلاً وفكراً كما مُلئت جوراً وبوراً. إنما بُعثنا لنتمم مكارم الأفكار والأخلاق. إذن.. والحال هذه لا بد من نهضة فكرية وإعلامية توازي نهضة النفط والطرق والسدود، والحديث هنا عن «فضائية الخرطوم» التي أدارت حوارات ثقافية ووطنية هائلة لتقريب وجهات النظر والشُّقة بين المكوِّنات السياسية والفكرية. ففي الأيام الأخيرة فقط كانت منبراً للأمام الصادق المهدي وصلاح إدريس وحسين شندي ورحيل الأستاذ نقد والشاعر حميد، وفي المقابل كانت مشعلاً لحمل ألوية الولاية، همومها ونهضتها، كانت حاضرة في مواسم التمويل الأصغر والمتناهي الصغر. سادتي الدكتور الخضر، الدكتور البارودي، الوزراء والمعتمدون.. صحيح أنكم مشغولون بجسري سوبا والدباسين، ومد جسور الأمل والحياة لخمسة ملايين أو يزيدون. فكل هذه الجسور تنهض على أطروحة «جسر فضائية الخرطوم» والتي إذا ما تجاوزت فترة تأسيسها ستكون مؤهلة (لتشيل حيلها). يجب ألا تسقط هذه الرأية وفينا نبض يهتف (ليس بالخرصانة وحدها نبني أحلامنا ونكتسب مشروعيتنا).. ودمتم