وأعجب منه أن تدري الغناء عند الطيور ضرورة بيلوجية. الطائر الذى لا يغرد ويرسل انغاماً خاصة بنوعه لا يستطيع أن يتناغم مع مجموعته وفوق ذلك لا يجذب الإناث لأنهن لا يتعرفن على النغمة التى يرسلها. ولكى تتكاثر الطيور يجب أن يكون لكل نوع نغمته الخاصة التى تحفظ له نوعه خالصاً دون الاختلاط بأنواع اخرى ولذلك ظل ود أبرق بنفس شكله وصورته وظل الغراب ايضاً بنفس شكله وصورته لأن كلاً منهما قد احتفظ بنغمته الاصلية التي يتعرف بها على أنثاه وتتعرف بها الأنثى على الذكر . لايستطيع احد مهما أوتي من قوة وسطوة ان يمنع طائراً من الغناء او أن يتحكم فى نغمته. فى العام 1976م كنت أقدم برنامج منوعات تلفزيونى وتمكنت بعد محادثات عديدة اجريتها مع الفنان الراحل محمد وردى أن أقدمه فى سهرة تلفزيونية خاصة وهو قد انقطع عن جمهوره منذ عام 1971م بعد انقلاب هاشم العطا في 19 يوليو . قضى بعض تلك الفترة فى السجن وبعضها ممنوعاً من السفر ومن الاجهزة الاعلامية.. ولكننا استطعنا أن نكسر الحاجز بينه وبين التلفزيون واتفقنا معه أن نقدمه فى سهرة تلفزيونية يطل منها على جمهوره المتعطش لرؤيته وسماعة. واستعد الناس فى ولاية الخرطوم للقاء العظيم مع فنانه العظيم وكتبت الصحف أخباراً تتعلق بذلك اللقاء المرتقب. وجاء وردي ومعه فرقته الموسيقية كاملة وكان يقول لي: بعد هذه الغيبة الطويلة أود أن اغني لجمهوري بكامل فرقتي الموسيقية وأود أن أُسمعهم الجديد من اغنيات قمت بتلحينها وادائها وانا بعيد عنهم. وكان الاتفاق مع الفنان وردى أن يغنى كل الاغنيات التى يود غناءها. ومن بين تلك الأغنيات التى وقعها مع الاوكسترا أغنية «بناديها» للشاعر المرحوم الدوش وقد كان من بعض افراد حكومة الرئيس الراحل جعفر نميرى من يفسر كلماتها بأنها مناوئة للحكومة وخاصة فى المقطع الذي يقول«فى الضل الوقف مازاد». ولم يبق على بداية الارسال إلا دقائق عندما جاءنى مدير التلفزيون ليقول لي: - انا جاتنى تعليمات من الرائد (...) أحد قادة مجلس قيادة الثورة يقول لي: وردى ممنوع يغنى «بناديها». الرائد المذكور لم يكن وزيراً للإعلام ولا له علاقة إشرافية بالإعلام. فقلت له أنا مقدم البرنامج ومحاور ولا أستطيع ان اقول لوردي ماذا تغني أو ماذا لا تغني... هو سيغني ما وقعه مع الاوركسترا وهذا ما سيقدمه للجمهور. قال لي: على أي حال انا أخطرتك وبما أن البرنامج على الهواء ومباشر سنقطع الإرسال بمجرد مايبدأ وردى فى غناء «بناديها». قلت له: هذا شأنكم ولكن الاحسن ان تنقلوا ذلك للفنان وردي.. إن قبل بذلك فهذا شأنه. ولكني أنا شخصياً لن اطلب منه ألا يغني اغنية هو يريد أن يغنيها. ونقلت ذلك لوردي الذى لم يتردد أن يعتذر للاوركسترا وبأنه لن يغني طالما أن ادارة التلفزيون وبما يمارس عليها من ضغوط تطالبه بألا يغنى اغنية هو يود أن يغنيها. وانتهى البرنامج بمثل مابدأ به من شعار. وفاتت على التلفزيون فرصة من أندر الفرص أن يكسر حاجز المنع ويقدم الفنان محمد وردي لجمهوره... بينما سبب ذلك إحباطاً كبيراً للجمهور. وكما يقول ابن عطاء الله السكندري: ربما كان المنع هو عين العطاء. لقد تدفق من بعد ذلك وردي أنهاراً من العطاء والإبداع. كيف تسطيع أن تمنع طائراً من الغناء وهو بالنسبة له ضرورة بيولوجية وكيف تستطيع أن تمنع وردي أن يغني وهو بالنسبة له ضرورة إبداعية؟.