بعض الناس لا يفهمون ما يقرأون، وبعضهم لا يعي ما يسمعه ومع ذلك فالذي لا يفهم ولا يعي يبني على سوء فهمه أقوالاً وعلى قلة وعيه أفعالاً، بل قد يدبج المقالات نتيجة هذه الفهوم المغلوطة لأنه يحسب أنه أكثر الناس فهماً وأسلسهم قلماً، وأظرفهم لفظاً، وأجملهم حديثاً، وأقربهم إلى قلوب الناس، يتمنى رضاءهم ويحلم بكلمة استحسان منهم. وهذا الداء منتشر بين الناس ليس في مجال الكتابة فحسب، بل في مجال الحديث أيضاً، حيث يحسب المصاب بالداء ألا مثيل له في حديثه وسمته وهيئته، كلامه درر وألفاظه شعر وقوله فصل، هذا الداء كما قلت قديم في البشر عاناه الكتاب وشكا منه الشعراء قديماً، وأشهرهم في المعاناة «أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ» الذي ألف رسالة في واحد من هؤلاء الأدعياء سماها «رسالة التربيع والتدوير»، ويظهر أن الرجل كان من ذاك النوع من البشر الذي يتصدر كل أمر ويتصدى لكل شيء، يدعي الفهم دون الناس. والرجل اسمه «أحمد بن عبد الوهاب» من الكتاب الأمراء وعلى صلة ببعض رجال الدولة العباسية، يوهم الناس كما يفعل الكثيرون أنه الناطق باسمهم المقرب اليهم، بل والعقل المفكر لهم والمنافح عنهم، والمدافع عن مشروعهم، قلمه لا يبارى، ولسانه لا يجارى، والناس لا ينتظرون إلا رأيه، ولا يخشون إلا بأسه، ولا يحسبون إلا حسابه، كيف لا وهو الناطق باسم السلطان، والمدافع عن بيضة الإسلام والايمان، إذا ترفع الناس عنه وتجاهلوه ظن أنه فارس الحلبة وكاسب الميدان، فتمادى في ضلاله وسدر في غيه وتطاول على الخلق. وصف «الجاحظ» «أحمد بن عبد الوهاب» راسماً له صورة كاريكاتورية بأنه مفرط القصر ويدعي أنه مفرط الطول، وكان مربعاً ونحسبه لسعة جوف صدره مدوراً، وكان جاهلاً ولكنه يدعي العلم. ويقول له «الجاحظ» أيضاً: «ومن عرف قدره عرف قدر خصمه، ومن جهل نفسه لم يعرف قدر غيره، وعليك بالجادة «وسط الطريق» ودع البنيات «الطرق الضيقة والأزقة»، فإن ذلك أمثل لك، وأنت والله تعلم الاضطرار، وعلم الاختيار، وعلم الأخبار، إني أظهر منك حرباً وألطف كيداً وأكثر علماً وأوزن حلماً وأكثر ملحاً «بضم الميم وفتح اللام» وأنطق لساناً وأحسن بياناً وأجهر جهارة «حسن المنظر» وأحسن إشارة، وأنت رجل تشذ من العلم وتنتف من الأخبار وتموه نفسك وتعز من قدرك وتتهيأ بالثياب وتتنبل بالمراكب وتتحبب بحسن اللقاء ليس عندك إلا ذاك، فلم تزاحم البحر بالجداول والأجسام بالأعراض وما لا يتناهى بالجزء الذي لا يتجزأ؟ ومن يعدل بين القناة الكرة وبين رحى الطحان وبين سيف يمان؟وإنما يكون التمثيل أتم الخيرين وأنقص الشرين وبين المتفاوتين، فأما الخل والعسل والحصاة والجبل والسم والغذاء والفقر والغنى، فهذا مما لا يخطئ فيه الذهن ولا يكذب فيه الحس». وأنموذج «أحمد بن عبد الوهاب أصبحوا كثراً يملأون الساحات ويقرأون المقالات ويتصدرون الفضائيات ويحضرون خطب الجمعة والجماعات، ثم يسيئون فهمهاً ويحرفون مضمونها ويزيدون فيها ويبترون بما يناسب فهومهم وأهواءهم ومقاصدهم وأغرضهم، لعلهم يوجهون أنظاراً أو يؤلبون سلطة أو ينسجون تهمة أو يمنعون شيئاً عندهم كبير وعند غيرهم حقير. ولعل الشاعر الفذ «المتنبي» قد ابتلي بأمثال «أحمد بن عبد الوهاب» الأنموذج المتكرر في كل زمان ومكان وحقل وبستان وساحة وميدان، فكان حقد المتشاعرين عليه والمتطاولين يجعله لا يرد عليهم ولا يشفي غيظ قلوبهم، فهم لا يساوون المداد الذي يكتب به، فالسكوت عنهم حلم، وتجاهل عوائهم سلم، واستكثار الحجارة عليهم غنم. يقول «أبو الطيب المتنبي لهؤلاء: أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ضعيف يقاويني، قصير يطاول لساني فيه صامت عنه عادل وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل وأتعب من ناداك من لا تجيبه وأغيظ من عاداك من لا تشاكل «أحمد بن عبد الوهاب كان يشتري الكتب، فما من كتاب الا وهو في مكتبته، ولكنه لم يقرأ منها كتاباً واحداً، وكان يحفظ أسماء الكتب التي في مكتبته حيث يدعي الثقافة ويتبجح بالعلم، ولو عاش في عصرنا ما كان تاركاً لمعرض كتاب داخل البلاد أو خارجها، كما يفعل الكثيرون في زماننا.