قانون «البقاء للأقوى»، ذلك القانون الطبيعي التليد، ظلّ يُقرِّرُ منذ فجر تاريخ الحياة على الأرض أن النمل والذرَّ وكائنات أُخرى كثيرة نتوهّمُ ضعفها وهوانها، هي من جُملة «الأقوى» التي حُظيت بالبقاء!! الأمر يحيلنا، إذاً، إلى «ماهيّة» القوّة، وتعريفها، لنرى بيُسرٍ شديد أنّ مفهوماتُنا السائدة عن القوّة، ليست دقيقة، وأنّ القوّة المادِّيّة الباطشة لم تمنع «الديناصورات»، أقوى وأعظم الكائنات التي عرفها التاريخ، من الانقراض، بينما بقي النمل والطحالب والهلاميّات تقاوم الفناء.. النملة إذاً، وخليّة الطحلب، أقوى من الديناصور، بمعايير الطبيعة التي لا تُحابي أحداً «الطبيعة نعني بها، ياصاح، ناموس الله في الحياة الدنيا».. لماذا؟؟ هذه الكائنات ضئيلة الشأن، كائنات تعرف «النظام»، سواء على مستويات الأفراد، أو على صعيد المجموعات، أو على مستوى النوع كلِّه.. والنظام الصارم الذي يحكم مستعمرة من مستعمرات النمل، أو مستعمرة طحلبيّة، يجعل قوّة المجموعة ليست هي المجموع العددي لقوى الأفراد المكوِّنة للمجموعة، بل هي محصّلة «متوالية هندسيّة»، شيء أشبه ب«الروابط الإسهاميّة» في عِلم الكيمياء.. ولكن «حجم» القوّة ليس وحدهُ ما يُعبِّر بدقّة عن معنى القوّة، بل وِجهة القوّة هي الأكثر تعبيراً، وها هنا يصبح للنظام معنى خطيراً، ويبدو ظاهراً للعيان لماذا انقرضت الديناصورات، ولماذا تسير «أمريكا» نحو الانقراض؟» وهي حقيقة ينبغي على ضحايا أمريكا ألاّ يجعلوها سبباً للاسترخاء وانتظار معجزات السماء، لأنّ سقوط أمريكا الذي لا ريب فيه، لن يأتي على الوجه الذي يظنُّون هُم، أو الذي يُشبِعُ شهوة الثأر فيهم، إلاّ إذا شاركوا هُم فيه بفاعليّة ونظام يشبهان فاعليّة ونظام الكائنات القويّة «كالنمل والطحالب»..!! القوّة الحقيقيّة، في أيِّ مجتمع، هي قوّة الترابُط والتعايُش والتناسُق، في كنف نظام محترم من الجميع، ومهيب أيضاً لدى الجميع، وقد ظلّ التاريخ يُحدِّثُنا أنّ الأُمم التي بلغت شأواً عظيماً في الحضارة والقوّة، هي أُمم كانت أوَّل أمرِها ضعيفة مهينة، حتّى ظهر فيها من علّمها الأخذ الصارم بنظامٍ ما، أيِّ نظام يحترمُهُ ويهابُهُ الجميع، فقويت وتسلّطت حتى أغرتها القوّة باطِّراح النظام واحتقاره، فذهبت.. هذا حدث لعادٍ وثمود وفرعون و«أتلانتيس» وبابل وأشور وسبأ والعرب، وسوف يحدث لأمريكا قريباً بحساب التاريخ.. وسوف تظلُّ «معسكرات النمل والطحالب» حتى ذلك الحين، باقية، تقاوم الفناء.. يؤسفني أن يكون السودان مليئاً بالذين يدركون هذه الحقائق البدهيّة، حقائق القوّة ثمّ يكون السودان هذا ذاته، أعظم دول الأرض فوضى «أنا لا أتحدّث عن الأفراد يا مولاي ، فالأفراد على دين ملوكهم ، والفوضى في السودان، هي دائماً فوضى الدولة» وأبأس مظاهر هذه الفوضى، أن يكتُب الناس عن مظاهر مؤلمة من الفوضى، مظاهر تناهز أن تكون ضرباً من الفساد الإداري البغيض، فلا يقاضيهم أحد، بتهمة «تشويه سمعة الدولة»، ولا يحرِّكُ أحد ساكناً، ولا تتصدى أيّة جهة مسؤولة للتحقيق في مظاهر الفوضى المعلنة والتي تتم تحت سمع وبصر الجميع!!.. ماذا يستطيع عاقل أن يسمِّي «الجبايات الرسمية» التي تتم خارج «أورنيك 15» وبالتالي بعيداً عن ولاية الوزارة المختصة بالمال، وبالتالي، لا تمر تلك الأموال بالخزانة العامة، بل تذهب رأساً إلى حيث يعلم الله وحده!! وكيف يمكن أن نسمي «الوعد» الذي قطعه وزير المالية بألا يشهد العام هذا فوضى الجباية المألوفة وألا يتم أي شكل من أشكال الجباية الرسمية خارج أورنيك «15» وهو ما أشار إليه الزميل الأستاذ أحمد المصطفى إبراهيم في «استفهاماته» الأسبوع الماضي مذكِّراً وزير المالية بالوعد الذي قطعه دون إنفاذ وقد مضى ربع العام!!؟والمثال المذكور، للأسف، ليس هو النموذج الوحيد، بل هُو واحد من مظاهر كثيرة لغياب «النظام» وانفراد أمزجة أفراد وأهواء أشخاص، بأعباء كان ينبغي أن يتكفّل بها نظام إداري دقيق وصارم!! كيف يُمكن الحديث عن أي ضرب من ضروب التخطيط الإستراتيجي في ظلّ أوضاع كهذه؟..