إن الشعراء الذين يراعون بحبٍ وإخلاص حقوق الوالدين والأقربين وصلات الإخاء والود مع الآخرين، ويشعرون بالشفقة والعطف لأحوال اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، هم أولئك الذين يتقون الله حق تقاته، ويستجيبون لقوله تعالى في محكم تنزيله: (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خيرٍ فإن الله به عليم» سورة البقرة الآية «215». وهذه مشاعر حبٍ صادقة للوالدين والأبناء وكل أفراد الأسرة عبر عنها الشاعر سيف الدين الدسوقي في قصيدة بعنوان: «الغربة والعيد» التي كتبها أثناء إقامته في خارج السودان قائلاً: أنا يا أحبة رغم أودية الزمن رغم البعاد وغربتي ومطامحي رغم الشجن أنا مثلما أحيا هنا أنا عندكم أحيا على أرض الوطن أنا يا أحبة عندما نادى الأذان ذكرتكم وسمعت في البعد البعيد مرتلاً للذكر، آي الله يثري فجركم فعرفت في الصوت الجميل أبي أبي وعرفت في الفجر البديع خصالكم أنا يا أحبة في الصباح ذكرتكم ورأيتكم عندي بعين مشاعري وسألتكم عن أمي الفضلى وعدت سألتكم فبخلتمو حتى بحمل تحيةٍ استودعتها الله يوماً عندكم فعتبت والله العظيم عليكموا! جاء المساء أحبتي ورأيت أطياف المسا حدقت، علِّي عندها ألقاكمو وعسى عسى فإذا خيوط الليل في أبعادها: بنتي «لدينة» والشقيق أخي «بها» فحضنت في الليل الكئيب مباهجي وبفجأةٍ أدركت أني حالم عانقت أفراح المنى آمالها وخيالها وهذه أبيات من قصيدةٍ بعنوان: «رسالة إلى أمي» للشاعر صالح عبد الله أحمد، عبر فيها عن سعيه الدؤوب الجاد المخلص لمرضاة الله تعالى واسعاد والدته بالمسلك السليم القويم في الحياة قائلاً: أماه ما نزق الشباب يسوسني فلقد عشقت رسالتي وجهادي انزعت قلبي من حديث محمدٍ ومن الكتاب رواحلي وعتادي وكذا التمست الحق وهو هدايتي سبل الرشاد، فتم لي اسعادي! وسلكت درب الخير أعمل جاهداً ومطيتي عزمي وفكري زادي أماه أنت مقيمة في خاطري ألقاك إن غدر الزمان العادي إن الرحيم إليك أفرد جنةً فسليه يا أماه لي إرشادي وأرضي علي يحفني برضائه فهو العليم هو اللطيف الهادي وقد نظم الشاعر مصطفى عوض الله بشارة «كاتب هذه الدراسة الأدبية» قصيدة رثاء بعنوان «أهزوجة حب إلى الأم» أهداها إلى روح والدته السيدة الفضلى حُسنة إبراهيم حسن «رحمها الله وجعل مقامها في جنات الخلد بمشيئة الله تعالى». وفيما يلي مرثية الشاعر لوالدته: يا حنان الوجود يا منبع العطف ومهداً تزينه النعماء يا ملاك الحياة أنت ربيع وهناء ورحمة وصفاء كلما أشرق الصباح على الكون تجلى من نورك اللألاء ويغني الأطفال في ساحة الروض فيبدو على الزهور الرواء وتموج الأنغام في الخاطر الرحب فيحلو للساجعاتٍ الغناء بسمة الحب للتي تنشر الخير علينا، فكلنا السعداء وتجلى بخلقها منشئ الكون، فأعطى، كم فاض منه العطاء خلقاً رفت الشمائل فيها ملء إحساسها الندى والوفاء أرضعت طفلها، وربت رجالاً نذروا العمر، فالجهاد فداء! هدهدتني نجواك تدفق بالشوق، فتصفو في نفسي الأشياء هي نور الأرواح كرمها الله ثواباً يفيض منه الرضاء وبأسلوبٍ جزلٍ رصين نظم الأديب الشاعر العلامة الراحل عبد الله الطيب مرثيةً حزينة عبر فيها عن عميق تأثره ومعاناته وأشجانه لوفاة جده الشيخ جلال الدين الطيب، قائلاً بحزنٍ وأسى: نشر الموت برده فاحتواكا ليت نفسي قبيل ذاك فداكا لست أبكيك من جفوني فدمعي حزن يقلق الضلوع الركاكا ويسترسل الدكتور عبد الله الطيب في ذكر مناقب جده الشيخ الطيب ومكارمه، قائلاً: ليتني كنت حاضراً يوم سجيت فأروي من مقلتي ثراكا! يا سليل الكرام من دوح مجذوب «م» عزيز علي ألا أراكا ومسيل الكتاب كالروح من فيك قوياً لا يفضض الموت فاكا يا منير الطريق في الزمن المظلم «م» من لي بومضةٍ من سناكا؟ يا محيطي بالعطف إذ ذهب الوالد «م» فاذهب لعطف بر دعاكا نم هنيئاً في روضة السلف الصالح «م» وأنعم فإنها مأواكا! وبمشاعر الحب والوفاء يبوح الشاعر المهندس الصافي جعفر الصافي بأشواقه وحنينه إلى رفيقة دربه «زوجته الحبيبة» أم جعفر، وهو في فترةٍ غيابٍ عنها، أوحت له أصداء ذكرى أثارت كوامن أشجانه، فأنشد يقول لحرمه المصون: شفاء القلب يا روحي ويا أملي ويا نفسي ويا ترنيمة نشوانة تنداح في حسي أحن إليك مشتاقاً إلى ما كان من أمسي أحسك في حناياي برقةٍ ذلك الجرس وأسكب دمعي الدفاق مدراراً على الطرس أسطر منه آهاتي وتحناني إلى الأنس! رسائلكم أيا أحباب قد صيغت من السحر هي الدنيا بأجمعها وما قد لذ من عمري تعبقني بأنفاس فأفرح من شذى العطر ويسترسل الشاعر المهندس الصافي جعفر في الإطراء مدحاً وثناءً على شريكة حياته عندما يعود بعد غيابٍ إلى داره فتسعده بحفاوتها المعهودة وهو يردد ببهجةٍ وسرور قائلاً: غداً يا جنة الدنيا ألاقيك على وعد غداً ألقاك في دنيا من الأحلام والورد وفي عطرٍ من الأنفاس تطلع نجمة السعد نحس معاً بدفء الحب والأشواق والوجد بعطف الله يجمعنا ويجعلنا على العهد! والشاعر السياسي الكبير الراحل محمد أحمد محجوب التقى كثيراً في مجالس الأدب والصحافة والفكر بكوكبةٍ نيرةٍ مرموقة من قادة الرأي وكبار الصحفيين والأدباء والشعراء وقد نظم المحجوب مرثيةً تفيض حزناً وأسى لرحيل العبقري الشاب معاوية محمد نور الذي تألق نجمه وأثبت وجوده الأدبي في أوساط أهل الثقافة والعلم في مصر الشقيقة. وعندما عاد الأديب الشاب معاوية نور إلى البلاد في عهد الحكم الاستعماري لم يجد المعاملة الكريمة اللائقة به من قبل السلطات الحاكمة في ذلك الوقت، وأوصدت في وجهه أبواب الوظائف التي تتيح له خدمة وطنه والكسب الحلال الذي يهيء له العيش الكريم وقد عانى الأديب المفكر معاوية نور معاناة قاسية من الحكم الاستعماري بسبب أفكاره التي ظل يجاهر بها في كل منبرٍ ومنتدى بأهمية الحرية والاستقلال للسودان. ولما ازدادت عليه ضغوط العزلة والاضطهاد أصيب بفقد الذاكرة ثم فارق هذه الدنيا الفانية في سنٍ مبكرة وفي مرثية الشاعر الكبير محمد أحمد محجوب لصديقه ورفيق دربه الأديب المفكر الراحل معاوية محمد نور، شعور عميق بالحزن والحسرة والأسى، وقد جعل لمرثيته عنواناً حزيناً: «بكاء القلوب» قال فيها: يا رفيق الشباب زين الرفاق أين دمع العيون يوم الفراق جزع الصحب للفجيعة حتى جمد الدمع حائراً في المآقي فهو نار كم يصطلي بلظاها كل قلبٍ معذبٍ خفاق وبكاء القلوب أبلغ عندي من بكاء الجفون والأحداق! يا رفيق الشباب كنت الشبابا باسم الثغر دائم الإشراق ذا حديثٍ كأنه السحر يسري في نفوس الأنام كالترياق فهو كالهمس في الفؤاد وآناً مثل داوي الرعود في الآفاق يبهر السمع جرسه ويناجي خافقات القلوب بالأشواق ويثير النفوس معنى وحساً لفظه السهل ذو المعاني الدقاق كم صرفت الأنام عن آي شوقي وهواه بغادةٍ في العراق! لطريق العقاد يشدو ويشدو كهديل الحمام ذي الأطواق وعشقت الجديد في كل فنٍ وعشقت القديم غير نفاق وحذقت البديع من كل لونٍ يا مثال النبوغ والأخلاق ومن الذكريات الأدبية التي تظل دائماً ماثلةًً في خاطري، ذكريات أواخر خمسينيات ومستهل ستينيات القرن العشرين عندما كنت أحرص في مقتبل العمر على حضور منتدى صيدلية العاصمة المثلثة بالخرطوم، وكان المنتدى في ذلك الحين، ترتاده نخبة مرموقة من الأدباء والشعراء والصحفيين، أذكر منهم الدكتور عبد الله الطيب والشاعر محمد المهدي المجذوب والشاعر الهادي آدم والشاعر محمد محمد علي والشاعر بشرى أمين والصحفي عبد الله رجب والصحفي الإعلامي محمود أبو العزائم، وآخرين لا يتسع المجال هنا لذكرهم جميعاً وكان يدير المنتدى الأدبي ويشرف عليه الشاعر منير صالح عبد القادر. وفي ديوان «ألحان وأشجان» للشاعر الأستاذ محمد محمد علي قصيدة وصفية لمحاسن الطبيعة ومباهجها بعنوان: «لحن الإخاء» استهلها بالإهداء الآتي: «إلى الصديق العزيز الشاعر الكبير منير صالح عبد القادر». ومن هذه القصيدة اخترت الأبيات التالية: تبسم فؤادي حولك الروض ناضر وشخص «منير» في السويداء حاضر تحيط بنا زرق الجداول زفها إلى السنبل الوسنان نشوان مائر صه أيها الطير الذي عمر الذرى لقد جاء من أطياف عبقر طائر! مصطفى عوض الله بشارة