بعد الاعتداء الآثم الأخير على هجليج من دولة جنوب السودان رأيت أن أعيد نشر هذا المقال اليوم والذي نشر في هذه المساحة يوم الثلاثاء 20/مارس 2012 تحت عنوان «بيان الجيش» لأن ما ورد فيه يصلح لتوصيف الأحداث والحالة الراهنة بالبلاد. بيان الجيش بيان الجيش أمس الأول جاءت كلماته وعباراته وأحرفه كلها تنبض بنبض الشعب وتعبر عنه أصدق تعبير، ولا عجب ولا غرو في ذلك فقد أضحى الجيش هو المؤسسة الوحيدة في الدولة التي تعبر عن رأي الشعب رأي الأغلبية والسواد الأعظم بعد أن تحولت المؤسسات الأخرى المنوط بها الإنابة عنه إلى مجرد أبواق و مزامير صدئة تطلق «فحيحاً» بين الفينة والأخرى إنابة عن الجهاز التنفيذي، وتبصم على ما يقرره وتزينه في أعين الناس وتنتظر لترى أي وجهة ستسلكها الحكومة لتتبعها وهي تحرك ذيلها يمنة ويسرة علامة على الرضا. نقول إن الجيش كان موفقاً تمام التوفيق في افتتاح واستهلال بيانه الضافي الوافي بالآية «71» من سورة الأنفال «وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم» وسورة الأنفال هي ما هي وتسمى بسورة بدر وما أدراك ما بدر، فهذه السورة عبارة عن لوحة بديعة صور الله فيها حال أعداء الله ففيها فضح للمشركين والمنافقين والكفار وكشف مخططاتهم العدوانية وتآمرهم وخداعهم للمؤمنين، وفيها حض على قتال المشركين وإعداد العدة والقوة ورباط الخيل لهم ولآخرين من دونهم، وفيها وصف لمعركة بدر وتأييد الله للمؤمنين بالنصر وبالملائكة، وفيها نهي للمؤمنين عن خيانة الله والرسول وخيانة الأمانة، وفيها يمن الله على عباده المؤمنين بنصره إياهم وهم قلة كانوا لا يريدون ذات الشوكة، وفيها أمر بالجنوح إلى السلم مشروط بجنوح الكفار إليه. وفيها أمر لهم بالتحلل من عهد المشركين وميثاقهم إذا ما نقضوه واستغلوه للعدوان على المؤمنين وهذا ما تأمر به الآية «58» من السورة إذ يقول الله تعالى «و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين» فقد أمر الله رسوله أن يرد إليهم عهدهم، إذ لا فائدة فيه إذ هم ينتفعون من مسالمة المؤمنين لهم، وفي المقابل لا ينتفع المؤمنون من مسالمتهم عند حاجتهم إلى ذلك وهذا ما ينطبق بدقة على اتفاق الحريات الأربع، وكلمة الخوف هنا كما ذكر المفسرون لا تعني مجرد التخيل أو التخمين الذي قد لا يتحقق وإنما المراد به التأكد واليقين من خلال أفعال الكفار ودسائسهم التي يعلمها المؤمنون والمسارعة بأخذ الحذر والحيطة اللازمة وليس الانتظار حتى يقع العدوان بالفعل وهذا من الفطنة والكياسة التي يجب أن تتوفر في رجل الدولة وولي الأمر فهو يتدبر أمر الرعية ويدفع عنها الأخطار والمهالك قبلاً لما له من بُعد النظر ولما له من قدرة على معرفة نوايا ومخططات العدو من خلال أجهزة جمع المعلومات للقيام بتدابير وقائية واستباقية وفي المثل العربي «خذ اللص قبل أن يأخذك». نقول إن التوفيق قد حالف الجيش في اتخاذه تلك الآية ومن ورائها هذه السورة مرجعية استند إليها محتوى البيان الذي جاء موافقاً لمعاني وأحكام سورة الأنفال بخصوص علاقة المؤمنين بأعدائهم، فقال البيان «حكومة جنوب السودان خططت للهجوم عل« عدة مواقع في جنوب كردفان وتأكد لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن القوات التي تم حشدها لهذا العدوان قد اكتمل إعدادها ومن المتوقع أن يبدأ العدوان خلال اليومين القادمين»، إذن فقد تم التأكد يقيناً من العدوان وتحديد ميعاده عن طريق جمع المعلومات بطرقها المعروفة وليس بالتخمين أو التحليل أو الحدس وضرب الرمل.. وهذا ما يجب الاستعداد له وترك كل ما سواه وراء الظهر وألّا يعلو أي صوت فوق صوت ما هو آتٍ. ثم يختم البيان بالقول «إن القوات المسلحة إذ تندد بهذا العمل وهذا التوجه العدواني توضح مدى خيبة الأمل تجاه حكومة الجنوب وتنصلها من الاتفاقيات التي وقعتها مع حكومة السودان وأن هذا التنصل يعتبر إلغاءً عملياً لما تم الاتفاق عليه» انتهى البيان لله در من صاغ البيان فقد لخص وأجمل الوضع مستلهماً معاني آية سورة الأنفال «وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين»، وبموجب هذا الأمر الرباني على الحكومة أن تنبذ إلى حكومة دولة جنوب السودان كل الاتفاقيات التي أبرمتها معها وأن تتحلل من قيودها وأصفادها وتتبرأ منها كلية، أو هكذا يفهم من بيان الجيش فبما نقض جوبا ميثاقها وعهدها مرتين مع الخرطوم والمتمثل في مذكرة «عدم الاعتداء والتعاون» التي وُقعت في العاشر من الشهر الماضي في أديس أبابا حين خرقتها بعدوانها على بحيرة الأبيض بعد أسبوعين فقط من التوقيع، ومرة ثانية بإعدادها للهجوم على جنوب كردفان هذه الأيام، رغم أن حبر التوقيع على اتفاق الحريات الأربع لا يزال «طازجاً» ورغم إعلان برنابا بنجامين لسان حكومة الجنوب قبل يومين في عبارات «ملساء» شديدة النعومة والرقة أنهم يريدون العيش بسلام وعلاقات حسن جوار وتعاون وأن وفداً ميموناً سينزل الخرطوم لتقديم دعوة رسمية للرئيس البشير لزيارة جوبا لعقد قمة بينه وبين سلفا كير، ولكن بينما كان الرجل يفرز عباراته اللزجة هذه إلى الصحفيين كانت الآليات والقوات تحشد ويكتمل إعدادها للهجمة من النجمة، وظهيرة الخميس الماضي بعد يومين من توقيع الحريات الأربع- كان سلفا كير يخاطب أهل ولاية شمال بحر الغزال المتاخمة للسودان قائلاً ( نحنا ما عندنا عداوة مع الشعب السوداني مشكلتنا الأساسية مع العصابة الحاكمة في الخرطوم، ونحنا ما حنقبل أي اتفاق نهائي ما بقول أبيي وكافي كنجي وكاكا وهجليج وجودة الفخار يا هو ده مناطق تابع لجنوب السودان، يا ناس بحر الغزال أنا عارف إنتو عندكم سلاح لكن أنا ما بشيل منكم السلاح بتاعكم دا لأنو أنا عارف إنتو شايلنو ليه». والصورة الآن أصبحت في غاية الوضوح أمام الحكومة، ويجب أن تترجم «خيبة الأمل» تجاه حكومة الجنوب التي عبر عنها بيان الجيش إلى سياسة تمشي على الأرض، وأن يتم إتباع قول البيان أن مسلك جوبا يعتبر إلغاءً عملياً لما تم الاتفاق عليه بالعمل، فتُجمع الحكومة أمرها على سياسة جديدة تقوم على شرط حديدي بأن لا تفاوض حول أيٍّ من القضايا العالقة وغير العالقة إلا بعد طي الملف الأمني والتزام جوبا بعدم دعم المتمردين وبذلك تكون الحكومة قد صحَّحت الوضع ووضعت حصان الملف الأمني أمام عربة القضايا العالقة ليجرها وحينئذٍ سيعلم الجميع هل تريد جوبا سلاماً حقيقياً مع السودان أم أنها فقط تمارس لعبة كسب الوقت .