كأنك في تونس لم تبتعد عن مصر. فالثورة واحدة والهم فيها واحد. لكن إدارة الأزمة اختلفت، حيث أثبتت تجربة العام أنهم تفوقوا علينا في المهارة السياسية. «1» أول ما وقعت عليه عيناي حين خرجت من باب الفندق ثلاث خيام منصوبة على الرصيف المقابل أمام إحدى البنايات، وقد رفعت فوق إحداها لافتة تقول: قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق. سارع مرافقى إلى إيضاح الموقف فذكر أن الخيام لعمال معتصمين منذ أسبوع لأن لديهم مطالب رفضتها جهة الإدارة. لم يكن المنظر فريدًا فى بابه، لأن أمثال تلك الاعتصامات لاحظتها فى شوارع عدة، وأخبارها وصورها تحفل بها صحف الصباح. لم أستغرب المنظر الذى كان صورة طبق الأصل من الحاصل فى مصر، ولم يكن الأمر مقصورًا على ذلك، لأن ما نعرفه من حوادث قطع الطرق تعبيرًا عن الاحتجاج ومحاولة الضغط على الحكومة من خلال «وقف الحال»، أصبحت ظاهرة منافسة للاعتصامات شبه اليومية، وهو ما شكا منه وزير التنمية والتخطيط، جمال الدين الغربى، أمام لجنة المالية والتخطيط بالمجلس التأسيسى حين أعلن أن أمثال تلك الصعوبات عطلت مشروعات بقيمة 1800 مليون دينار «الدولار يعادل 1.5 دينار»، بل إن رئيس الجمهورية الدكتور منصف المرزوقى اعتبر أنها تشكل تهديدًا للديمقراطية. تلك نماذج قليلة من سيل الأخبار التى تحفل بها الصحف، وتكاد تعد استنساخًا لما تنشره الصحف المصرية كل صباح، فبقايا الانفلات الأمنى لاتزال مستمرة، وملف ضحايا الثورة وحقوقهم مفتوح على مصراعيه، وثمة لجنة لشهداء الثورة وجمعية «لن ننساكم» تباشر الآن مع الجهات المعنية. والاحتجاج على ممارسات الحكومة والتساؤل عن سرقة الثورة وعما إذا كان الموقف يتطلب القيام بثورة ثانية، هو ذاته الذى نقرؤه فى بعض الصحف المصرية، هم أيضًا يتحدثون عن محاولات استرداد الأموال المنهوبة والتى أودعها الرئيس السابق وأعوانه فى البنوك الأجنبية. كما يتحدثون عن فكرة التصالح مع رجال الأعمال الذين تورطوا فى فساد النظام السابق «460 ممنوعون من السفر» وإلزامهم بتبنى مشروعات تنموية فى مختلف الولايات «المحافظات»، وثمة مشروع مقدم إلى المجلس التأسيسى قدمته كتلة المؤتمر من أجل الجمهورية باستبعاد «فلول» النظام السابق «أعضاء حزب التجمع المنحل» من ممارسة العمل السياسى لمدة 5 سنوات فى حين يطالب آخرون بمدها إلى 10 سنوات. «2» يصف الشيخ راشد الغنوشى رئيس حركة النهضة تونس بأنها «مصر الصغرى». وذلك فى سياق حديثه عن أوجه التشابه بين البلدين والشعبين، فى اعتدال المزاج العام، وفى تركيبة الخرائط الاجتماعية والسياسية. وفى دور المنارة الذى مثله كل من جامع الزيتونة فى تونس والجامع الأزهر فى مصر، وريادة التحديث عند خير الدين التونسى هناك ورفاعة الطهطاوى هنا «الاثنان ظهرا فى القرن التاسع عشر». وكان تقدير الشيخ الغنوشى المبكر أن الثورة ستبدأ فى مصر وستنتقل شرارتها بعد ذلك إلى تونس، معتبرا أن تفاعلات غضب 85 مليون نسمة فى مصر سوف تسبق انفجار غضب العشرة ملايين تونسى. إلا أن رياح الأحداث أتت بعكس ذلك. امتد التشابه إلى ما هو أبعد، حين ضربت رياح التغريب البلدين بعد الاستقلال. وإن كانت تلك الرياح أشد وأعتى فى تونس. وبرز الصراع بين التيارين الإسلامى والعلمانى «التغريبى تحديدًا» فى كل منهما. مع انحياز للعلمانية أكثر وضوحًا وأشد فجاجة فى تونس. وقد تساوى البلدان فى موقفهما من قمع الإسلاميين، الأمر الذى أصبح من ثوابت النظام السياسى فى كل منهما. خصوصًا بعد خضوعهما لنظام بوليسى صارم كان فاحشًا فى تونس، احتكر السلطة ونهب الثروة وأشاع الفساد بقدر ما أشاع الخوف. وهو الوضع الذى انقلب تمامًا بعد الثورة، على الأقل فيما خص الحريات العامة، حتى انتقل كل من البلدين إلى حالة من الانفلات الإعلامى بدت أوسع نطاقًا من الانفلات الأمنى. هذا التشابه فى الظروف لم يمنع من وجود تباينات برزت بعد قيام الثورة فى كلٍّ منهما. ذلك أن الجيش فى مصر انحاز إلى الثورة وشكل مجلسًا أعلى تولى السلطة التنفيذية فى البلاد. أما فى تونس فالجيش وقف محايدًا فى حين تولت السلطة المدنية إدارة البلاد منذ اليوم الأول، حين شغل رئيس البرلمان منصب رئيس الدولة طبقًا للدستور. وتولى من جانبه تكليف حكومة أشرفت على إجراء انتخابات الجمعية الوطنية التى قامت بمهمة البرلمان وشرعت فى وضع الدستور. لذلك فإن الجدل المثار فى مصر حول نقل السلطة من المجلس العسكرى إلى المدنيين لا وجود له فى تونس. من الفروق المهمة بين البلدين أيضًا أن حزب النهضة الإسلامى الذى فاز بأعلى نسبة من الأصوات فى انتخابات الجمعية التأسيسية نجح فى تشكيل فريق ثلاثى «ترويكا» تولت إدارة البلاد، مستثمرًا فى ذلك توافقًا مبكرًا «فى عام 2005» بين الأحزاب الوطنية فى مواجهة الرئيس السابق زين العابدين بن على. إذ أسس هؤلاء فيما بينهم ما سُمي بهيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات، ونجحت تلك الهيئة فى التوصل إلى تفاهم بين تلك القوى حول المستقبل، بلورته أوراق تناولت ثلاثة عناوين هى: الحريات العامة والعلاقة بين الدولة والدين وحقوق المرأة. هذه الخلفية فتحت الطريق لاقتسام السلطة، بحيث تولت حركة النهضة رئاسة الحكومة، فى حين تولى رئاسة الدولة ورئاسة الجمعية التأسيسية ممثلان لحزبين علمانيين هما الدكتور منصف المرزوقى رئيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والدكتور مصطفى بن جعفر رئيس حزب التكتل من أجل العمل والحريات. «3» التوافق الذى أدى إلى اقتسام السلطة بين الإسلاميين والعلمانيين المعتدلين يعد أحد أهم الإنجازات السياسية التى تحققت بعد الثورة فى تونس، وهو ما فشلنا فيه فى مصر. ذلك أنهم إذا كانوا هناك قد أقاموا تحالفًا سياسيًا مع العلمانيين المعتدلين حرك سفينة إدارة الدولة، فإن الفشل الحاصل فى مصر حال دون توافق الإسلاميين مع المعتدلين والمتطرفين من العلمانيين والليبراليين، الأمر الذى أدى إلى تعثر المسيرة وتخبطها. وهو ما شهدناه فى تشكيل جمعية وضع الدستور، وفى العديد من الممارسات السياسية الأخرى. أدري أنه من الصعب للغاية علاج أزمة الثقة بين الطرفين بسبب الضغائن والمرارات التى تراكمت على مر العقود، لكننا نتحدث عن إمكانية التعايش بين عقلاء الجانبين فى ظل استمرار الخلافات بينهما. ذلك ان القدرة على تحقيق ذلك التعايش هي المعيار الذى تقاس به المهارة السياسية. فى هذا السياق يلفت نظرنا فى تونس أن حركة النهضة تواجه تحديًا ليس من المتطرفين العلمانيين فحسب، وإنما من المتطرفين الإسلاميين أيضًا، ذلك أن الأولين يستثمرون حضورهم فى الساحة السياسية وانتشارم فى وسائل الإعلام وفى أوساط بعض المثقفين فى تجريح الحركة والحكومة التى تولت حركة النهضة رئاستها. إذ إلى جانب حملات التشهير والتشكيك والتحريض التى يمارسونها من فوق المنابر المختلفة، فإن عناصرهم التى تتحكم فى أغلب وسائل الإعلام دأبت على تحدي الحكومة ومقاطعتها فى بعض الأحيان. يذكرون فى هذا الصدد أن تنصيب أول حكومة شكلتها «النهضة» فى تاريخ تونس المعارض، كان الخبر الثالث فى نشرة أخبار التليفزيون الرسمى، فى حين كان الخبر الأول عن الغلاء فى تونس والثانى عن الاعتصامات. حدث ذلك فى الوقت الذى احتل فيه حدث التنصيب رأس نشرة الأخبار فى التليفزيون الفرنسى. وحين زار وزير الخارجية التونسىبكين ووقع بعض الاتفاقيات مع نظيره الصينى، فإن التليفزيون الرسمى نشر صورة الوزير الصينى وحده وتجاهل التونسى (!). لكنه أبرز خبر زيارة خارجية سوريا لبكين التى تمت فى ذات التوقيت. يتحدثون أيضًا عن تجاهل التليفزيون لزيارة الرئيس المرزوقى لليبيا، إذ فى الوقت الذى كانت تجرى مراسم استقباله فى مطار طرابلس، فان التليفزيون الرسمى كان يبث برنامجًا عن الغابات وحيواناتها المختلفة... إلخ. إذا كان المتطرفون العلمانيون يضغطون من على يسار النهضة فإن السلفيين يضغطون من أقصى يمينها. إذ كما ظهر السلفيون فى مصر بشكل لافت للنظر بعد الثورة، فإن ذلك حدث أيضًا فى تونس مع اختلاف فى أمرين. الأول انهم فى مصر شاركوا فى الانتخابات وحصلوا على خُمس مقاعد مجلس الشعب، ولكنهم قاطعوها فى تونس. الثانى انهم فى مصر على اختلاف أطيافهم يركزون على الدعوة والأنشطة السلمية وينتمون إلى ما يُعرف بالسلفية العلمية، أما فى تونس فلهم جناح يستخدم العنف وينتمى إلى ما يسمى بالسلفية الجهادية. والمسالمون يزحفون على المساجد ويفرضون تقاليدهم على المجتمع، والجهاديون ينشطون فى الجنوب ولهم علاقاتهم مع تنظيم القاعدة فى المغرب العربي. وقد قتل منهم اثنان مؤخرًا أثناء اشتباك مع قوات الأمن، حينما كانوا يهربون السلاح من ليبيا. «4» موقع الشريعة فى الدستور الجديد كان موضوعًا اشتباكيًا من جانب الطرفين، لكن قيادة حركة النهضة تعاملت معه بدرجة عالية من النضج والمسؤولية. فالمتطرفون العلمانيون خاصموها والمتطرفون الإسلاميون اعتبروا النص عليها أمرًا وجوبيًا. وهؤلاء الأخيرون لم يكونوا من السلفيين فحسب ولكن وقف معهم فى نفس المربع الجناح المحافظ فى حركة النهضة ذاتها، كما تعاطف معهم جمهور من المتدينين العاديين. وشجع الجميع أحد الدعاة المصريين المقيمين فى الخارج، الذى استضافه السلفيون وصار رأس حربة فى المواجهة. التجاذب حول الموضوع عمق من الانقسام فى المجتمع التونسى وأشاع قدرًا غير قليل من التوتر فى أوساطه، خصوصًا أولئك الذين اقتنعوا بأن تطبيق الشريعة خطر على الحريات العامة والحداثة ومكتسبات المرأة.. إلى آخر ما يردده البعض فى مصر وغيرها فى هجاء الشريعة ومحاولة تجريحها. لمواجهة الموقف اجتمع قادة حركة النهضة وبحثوا الأمر من مختلف جوانبه، الذى عبر عنه الشيخ راشد الغنوشي رئيس الحركة بقوله انهم يريدون تجنب الانقسام فى البلد، لأن وحدة الجماعة الوطنية تمثل موقفًا إستراتيجيًا يتعين الحفاظ عليه. لذلك فإنهم اكتفوا بالنص المتفق عليه منذ الاستقلال الذى قرر أن تونس دولة عربية دينها الإسلام باعتبار ذلك التزامًا أصيلاً كل ما عداه تفاصيل تليه فى الترتيب. وهو القرار الذى نزع فتيل التوتر فى البلد، وأشاع حالة من الارتياح والسكينة فى أوساط القلقين والمتوجسين. إلا أنه أثار غضب السلفيين والجناح المحافظ فى الحركة، حتى إن أحد المزايدين فى الساحة السياسية وجه خطابًا إلى علماء السعودية دعاهم فيه إلى الاحتجاج على هذا الموقف الذى اعتبره «خيانة للشريعة». الفرق بين الموقفين، يعكس التمايز بين فصيل إسلامى يرى المجتمع ووحدة قواه الوطنية أولاً، وبين فصيل آخر يرى الجماعة ومشروعها أولاً. إن شئت فقل انه تعبير عن الاختلاف فى القراءة الإستراتيجية لواقع يرى فيه طرف محيطه الذى يعيش فيه، وطرف آخر ينظر إلى المرآة فلا يرى إلا نفسه، وهى العبرة التى لم يستوعبها أغلب الإسلاميين فى مصر. إلا أن تلك ليست المشكلة الوحيدة، لان أغلب الإسلاميين إذا كانوا يطيلون النظر إلى المرآة، فإن أغلب العلمانيين لايزالون أسرى حساباتهم ومراراتهم. وإذا كان الأولون مشغولين بالانتصار لمشروعهم والآخرون مشغولين بالانتصار على خصومهم، فإننا سنظل نحلم بيوم يفيق فيه الجميع فيحتشدون للانتصار للوطن، وأرجو ألا يطول انتظارنا لذلك اليوم.