تنوح الرياح الشتائية الجافة فوق أشجار الحراز، مثل طريدة جريحة ملقية وسط السهوب، ولا تتلقى الظلال على امتدادات الطريق، إلا لتتكئ على ظلال، وأشعة خجولة لشمس تراقصت في الضحى شاحبة الوجه والعينين والشفتين كأنها خرجت للإصباح قسراً ولمَ البزوغ؟، وتنام على راحتي تلك الساعة من نهايات شتاء هزيع السنوات الثمانين الأخير، قصة تائهة مثل أقاصيص جبرائيل غارسيا ماركيز «اثنتا عشرة حكاية ضائعة»، لكن أحداً لم يعد يذكر كيف تتمطى الدقائق والأزمنة في هذا الريف البعيد والأقاصي النائية والبوادي الغائرة في لحم النسيان ....! كأننا في بقعة فلتت من كفِّ الأعصر والدهور لم يطمس عفتها إنس ولا جان، هذه الآكام والآجام ذات الأشجار المتوسطة الطول، بحيوانها وطيورها وقوارضها وزواحفها من أراقم وحيّات، وسبخات مائها، تشهد أن الإنسان لا مكان له ها هنا، وإن كان.. فعابر سريع الخطى لا يفلت من يده خطام دابته ولا يؤوب.. بين مسافة وأخرى تظهر بقعة قاحلة كداء الثعلبة بين الأشجار، ترى فيه تجاعيد الأرض والتراب الحزين. «ب» في الركن الجنوبي الغربي من جنوب دارفور، في منطقة غير مأهولة لا تبدو إلا كقفرٍ مريع لا يعرف زائراً إلا الشمس ولا صوتاً إلا هزيم الرعود، ضللنا الطريق، فاتجهنا جنوباً صوب جنوب بعيد وخط الأفق يلامس الحدود ما بين إفريقيا الوسطى والجنوب وجنوب دارفور، تهنا في رحلة طويلة كنا في طريقنا إلى نير في الدروب السالكة المعروفة إلا من بحيرة تيسي التي خرجنا منها ليلاً وتجاوزنا كل الطرق التي تؤدي لحواضر ما، بعد إصرار السائق على ألا يسير في الدروب السالكة، والمألوفة من سبيل القاصدين للمدن والقرى المعروفة الشهيرة، تطاول الليل وأطلّ النهار وألمُ الجلوس في العربة اللاندروفر يومض كنسر هرم مهزوم مقهور.. ونظراتنا اليائسة للفراغ أمامنا تشبه نظرات يأس متقطر كأنه خيط من الوحل يلتفُّ حول قدمي الأمل الأكثر بؤساً..!! تسيل الشمس بوهجها وراء غيم بعيد، وربما تسكب من لونها الأحمر سراً غامقاً وراء الدرب اللامنتهي.. تذكرت الفيتوري في قصيدة الرياح: سماء تكاد تسيل احمراراً.. وأيدٍ مقوسة.. تتعانق خلف الغيوم وآجرة من تراب النجوم تظل تبعثرها الريح خلف مدارك... «ت» تأكد لنا أننا تهنا بعيداً بعيدًا... وظن أصيحاب الرحلة الطويلة التائهة أننا نمضي نحو المجهول بلا هدى ولا ندري إلى أين، وصوت آخر داخل العربة يقول «إن هذه الأشجار الكثيفة وبعض العظام المتناثرة تلمع كأنها مغسولة بماء الزهر، تشير بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه البقاع المجهولة هي موطن للجن!..!» نمضي ولا دليل، لا أثر لدرب ولا لإنسان، ونحن في طريق مسير دائري بلا هدى نرى الشمس فنتجادل إلى أين نتجه مهتدين باتجاهها، ولا يتوه من كان دليله الشمس، لكن لا ندري إلى أين نتجه. بعد مسير ساعات طوال، كأنهن يمضغن الوقت مضغاً ويجتررنه، حدث ما لم يكن بحسباننا، تعطلت العربة فجأة، لم نقلق لنفاد الوقود فقد كان هناك برميل كامل، نزلنا في أرض مليئة بالأشجار القصيرة والأكمات، يهمس المتشائم منا: « ألم أقل لكم إنها أرض جن..» !!!! يعابث السائق كل شيء ليصلحه بلا جدوى، والشمس تتجه لما بعد العصر، جلسنا في يأس خرافي يتسرّب الأمل من قلوبنا كأنه سنجاب صغير يقافز بعيداً ولا يعود.. «ث» سمعنا صوتاً خفيضاً وحركة بين الأشجار والحشائش العالية، ظننا أنه حيوان بري هارب، أو غزال مطارد، أو حية ضخمة تتلوّى بين جزوع الشجر والعشب الطري، لكن سعالاً انطلق من وراء الحشائش، انتبهنا جميعاً لمصدر السعال الخفيف، وتحركنا نحو مصدر الصوت، فإذا بطفل صغير لم يتجاوز السابعة من عمره يختبئ وراء الشجيرات والحشائش، يجلس هناك، يرتاح بكلتا كفيه على عصا رقيقة ويتأملنا ويراقبنا، لا ترمش عيناه ولا تطرف ولا يفرُّ منا، كانت له ضفيرة طويلة تتدلى من أعلى رأسه حتى كتفيه، يرتدي جلباباً من الدمورية سحقته الأيام سحقاً، عيناه برّاقتان، جريئتان، حادتان، وقويتان. تقدمنا نحوه بحذر، كجنود مفزوعين في معركة، لكنه ثابت لا يفرُّ ولا يتحرك، كان رابط الجأش يتأمل ويتفرّس في وجوهنا، سألناه فسلّم راداً علينا، بصوت واثق، لم يرد على سؤال آخر، وأطلق ساقيه للريح ..!! تجادلنا حوله، يصرُّ السائق الذي يرتجف من ذكر الجن، أن هذا الفتى عفريت صغير من الجن تمثل لنا ..!!ويقول آخر:لا أنه إنسي...لكننا لم نبصر قرية ولا فريقاً ولا مدينة ها هنا ..!!! عدنا للسيارة في محاولة لإصلاح عطبها بلا جدوى.. مرت ساعة والشمس تكاد تودِّع نحو المغيب، بدت من خلف الأشجار متكورة ضخمة حمراء ككرة من لهب لكن وجهها يمتصه الشحوب، وأتى هواء بارد خفيف يلامس الوجوه.. فجأة سمعنا جلبة وأصواتاً قادمة نحونا، وأطل من بين الأغصان والأشجار ذات الطفل ووراءه ثلاثة رجال وامرأتان، تقدموا نحونا، الرجال يحملون عصيِّهم وبندقية جيم «3»، أحدهم يحمل قربة ماء، والنساء يحملن قدحين كبيرين و«كفتيرة شاي»، سلموا علينا ورحبوا بنا باستغراب، جلسوا بالقرب منّا بعد عبارات الترحيب مفترشين الأرض، قال أكبرهم إن الطفل الصغير أخبرهم بأن هناك غرباء في المكان وحكى لهم ما رآه، وخفّوا من فريقهم لنجدتنا.. قدموا لنا طعاماً عبارة عن عصيدة دافئة في قدح أسود عتيق لمّعنه النساء بزيت من شحم الذبائح، عليها إدام من اللحم القديد وهو قديد صيد جاف وأظنه لحم غزال أو زراف، لم نذق جميعنا أطعم وأشهى وأطيب منه، والقدح الآخر عصيدة من الدخن «الدريش» تسبح في لبن عليها عسل صافي اللون شديد الاحمرار المشرب بسواد أو بالأحرى يشبه لون العيون العسلية كما كان يكتب على الجواز السوداني في أوصاف حامله، أكلنا كأن لم نأكل من قبل، الرجال ينظرون إلينا في استغراب، شربنا من ماء القربة البارد، والمغيب يرخي سدول الليل، أوقدوا ناراً من الحطب أضاءت ما حولنا، وضعوا عليها «كفتيرة» الشاي صبوا لنا منه في كاسات عتيقة، ثم سألونا بعد ذلك من أين؟ وسألناهم، وجدناهم من العربان الرحل، يجتازون الحدود والبقاع كلها من الشمال إلى الجنوب، لكنهم في هذا الوقت من نهاية الشتاء قدموا من بعيد ونزلوا بفرقانهم في مكان قريب من موقعنا، ولولا الطفل الصغير لما عرفوا أمرنا.. طلبوا منّا أن نبيت عندهم في الفريق لكننا ترددنا وفي النهاية قررنا الذهاب معهم، وجدنا الفريق عامراً بأهله، زال منّا الخوف بأنهم نفر من الجن بعد أن عرفنا قبائلهم ببطونها وأفخاذها وخشوم بيوتها وسمعنا تلاوة القرآن عندهم في صلاة العشاء، أخذنا نوم عميق، صلينا الفجر معهم وأفطرنا مع طلوع الشمس، ثم عدنا مع بعض منهم لمكان العربة، لم نفلح في إصلاحها إلا عند منتصف النهار، ودلونا على أقصر الطرق الذي هو مسير نصف يوم لنجد الطريق شمالاً نحو أقرب قرية ومنها نيالا مسير يوم كامل أو يومين. بينما السيارة تغادر المكان وقف الطفل ذو الضفيرة، في مكان بارز يلوِّح لنا بيده ووالده يقول: « هذه هي مروءة طفلنا في البادية» والريح التي تنوح تعبث بضفيرته من أعلى رأسه ونحن جميعاً نلوِّح له ونرى في عينيه مستقبلاً بلا تعليم ولا شيء من حظوظ أطفال الحضر... هكذا تمضي الحياة ولا ذكر لهؤلاء ولا مستقبل ..!! وتمضي السنوات ولا أحد منا يعرف ما حدث لطفل البادية ذاك الذي صار رجلاً، ولا أي ملاذ ومكان أخذته تلاطمات أمواج الحياة.. لكن صورته وهو يلوِّح بعينين براقتين في وحشة الغاب والفلوات البعيدة، ستظل هي التي تعطي قوس قزح العمر نفحة من ألوانه الخالدة.