كان سؤال موقف الحركة الإسلامية من الاقتصاد أحد الأسئلة المهمة التي واجهت الحركة الإسلامية منذ تأسيسها حزباً سياسياً في جبهة الميثاق الإسلامي. والتي ركزت في برنامجها الاقتصادي على ملامح عامة أقرب ما تكون للبرنامج الاشتراكي بالتركيز على اقتصاد تعاوني. وتدخل الدولة لمنع الربا والاحتكار وتركيز الثروة في أيدي القلة، ولا شك أن القيادة الفكرية للجبهة آنذاك كانت أكثر تأثراً بالتيار الاشتراكي السائد في الخطاب السياسي في المنطقة. بل إن أهم مؤسسي الحركة عند نشأتها قد انسلخت طائفة منهم وانشأت ما سُمي بالحزب الاشتراكي الاسلامي. وكانت كتب الشهيد سيد قطب «معركة الإسلام والرأسمالية» وكتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» هي أهم المصادر الفكرية لمثقفي الحركة الإسلامية على صعيد المسألة الاجتماعية. وتأثر التيار الإسلامي بالتيار الاشتراكي لم يكن وقفاً على الحركة الإسلامية في السودان بل امتد على نطاق العالم العربي. وكانت كتابات الدكتور السباعي في سوريا رافداً آخر لطرح الطريق الإسلامي للاشتراكية بل إن عدداً من مفكري العهد الناصري في سبيل البحث عن طريق إسلامي للاشتراكية قد أعادوا قراءة التاريخ الإسلامي برؤية اشتراكية. بيد أن فكرة العدالة الاجتماعية كانت هي وما تزال مفتاح قراءة الموقف الإسلامي من الاقتصاد. ولا شك أن كلمة اشتراكية نفسها مفردة غير دقيقة عند تعريب مفردة Socialism فالتعريب الأكثر دقة لتلك المفردة هي المذهب الاجتماعي. لأنها مشتقة من مفردة Society وليس من كلمة شراكة Partnership ، والتركيز على أولوية المجتمع على الفرد بإزاء الفكرة الرأسمالية التي تعطي الأولوية للفرد موقف فلسفي يتشاركه الإسلاميون مع المفكرين الاشتراكيين. فولاية المجتمع على المال وعلى استقامة الأفراد على نهج الشريعة أمر تتوافر عليه شواهد وبراهين كثيرة في الكتاب والسنة. بل إن القرآن غالباً ما يتوجه بالخطاب مباشرة لمجتمع المؤمنين بوصفه جهة التصرف كأن يقول «ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم»، وكأن يقول «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتدعون إلى الخير» بل إن غالب خطاب القرآن يبدأ بعبارة «يا أيها الذين آمنوا». كذلك فإن القرآن قد أجمل سبب إنزال الكتب وإرسال الرسل في هدف تحقيق العدل الاجتماعي «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط». وخاطب المؤمنين للقيام بهذا الواجب «يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم». وهكذا فلا مشاحة في ولاية المجتمع على أفراده ليقوم باعطاء كل ذي حق حقه. وذلك من خلال المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي ينشئها المجتمع المحتكم إلى دين الله وشرعه القويم. ولئن ساهمت أدبيات سيد قطب في بلورة المفاهيم الاقتصادية الأساس لدى الإخوان في السودان وبخاصة تلك التي اشتمل عليها كتاب العدالة الاجتماعية في الاسلام إلا أن الروح النقدية القوية التي اشتمل عليها كتابه «معركة الإسلام والرأسمالية» لم تجد ذات الوقع والأثر مثل كتابه الأول. ولذلك فإن الدعوة للعدالة الاجتماعية لم ترافقها روح قوية لمناهضة الاتجاهات الرأسمالية. وربما يعود أحد الأسباب لوجود الحزب الشيوعي السوداني الذي تركز خطابه في الهجوم على طريق التطور الرأسمالي. وربما لم يشأ الاسلاميون في السودان أن يتعاظم التشابه في خطابهم السياسي الاقتصادي مع الحزب الشيوعي الناشط في الساحة السياسية آنذاك. ولكن على الرغم من ذلك كانت كتابات الاسلاميين في السودان وفي العالم العربي لا تخلو من النقد للمنهج الرأسمالي. بيد أن الأدبيات في هذا المجال تخلو من الدراسات المقارنة المفصلة بين الرؤية الإسلامية في حرية التجارة والأسواق وبين مختلف مناهج الفلسفة الرأسمالية. وعندما أتيحت للاسلاميين فرصة تأسيس مؤسسات اقتصادية إسلامية كان التركيز فيها على تجنب المخالفات الظاهرة للشريعة الإسلامية. مثل محاربة الربا وتجريمه وتحريمه، أو منع المعاملات المحرمة شرعاً. ولم تكن الرؤية المقاصدية هي الرؤية التي تهدي التفكير والتصرف لدى الطائفة الأكبر من الإسلاميين في السودان. ونقصد بالرؤية المقاصدية ما يريد الشارع أن يحققه من خلال النظم والسياسات الاقتصادية، وليس فقط ما يجب أن يتجنبه خلال مسعاه لتحقيق تلك المقاصد. ولأجل سياقة الأمثلة فقط ينشأ السؤال عن مقصد منع تراكم المال في أيدي القلة ليكون دولة بين الأعضاء، ما هي السياسات والتدابير التي يجب أن يتبناها الدستور أو القانون أو السياسات العامة لتحقيق هذا المقصد؟ كيف يُعبر عن ذلك المقصد في النظام المصرفي الإسلامي؟ كيف يمكن أن يجري تيسير وصول التمويل وخدمات الضمان والائتمان للفقراء بدلاً من ان تكون حكراً على الأغنياء فحسب «15%» فقط هم من يتعاملون مع المصار ف في السودان وأقل من ثلثهم هم من يحظى بالتمويل وغالب هؤلاء من أصحاب الدثور والأموال الطائلة لقدرتهم على تقديم الضمانات اللازمة» لا شك أنه ومؤخراً جداً بدأ التفكير في الاستفادة من إستراتيجية التمويل الأصغر لتمويل الفقراء، ولكن هذه الفكرة اهتدى إليها وتحمس لها السياسيون أكثر من المصرفيين. وعلى الرغم من تجارب أحمد النجار في بنوك الفقراء في مصر إلا أن الأنموذج السائد في المصرفية الإسلامية كان هو أنموذج البنك التقليدي اللاربوي. ومثال آخر هو الزام المجتمع بمحاربة الجوع إلى درجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول «أيما أقل عرضة باتوا ومنهم أمرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله» فمقصد الدين أن لا يتساكن الجائع والمتخم في مكان واحد. فكيف يعبر عن هذا المقصد في الدستور والقرآن والسياسة العامة. كيف يضمن المجتمع أن لا يجوع أفراده تحت مرأى ومسمع أغنيائه في ظروف السعة والضيق على حدٍ سواء. وهذه الأسئلة تطرح قضية الضمان الاجتماعي وشبكات الأمان الاجتماعي التي جعل القرآن الزكاة أنموذجاً لمؤسساتها الاجتماعية فكيف يمكن ان تتطور رؤية الضمان الاجتماعي من خلال الزكاة ومن خلال مؤسسات الضمان الاجتماعي الأخرى؟ مؤخراً أجازت الحكومة إستراتيجية مرحلية لمكافحة الفقر اشتملت على أفكار ومفاهيم لمكافحة الفقر. بيد أن القضية من الناحية الفكرية وفي الجوانب التشريعية والسياسية لا تزال تحتاج إلى تداول كبير وبلورة لرؤى وسياسات تهدي تصرف الدولة والمجتمع في مواجهة أكبر المشكلات التي تواجه بلادنا وهي مشكلة الفقر وآثارها في تكريس التخلف الاجتماعي والاقتصادي.