في المرحلة الابتدائية كانوا يجعلوننا نحفظ قصيدة للشاعر أحمد شوقي بعنوان عصفورتان في الحجاز تقول كلماتها: عصفورتان في الحجاز حلتا على فنن في خامل من الرياض لا ندٍ ولا حسن مر على أيكيهما ريح سرى من اليمن حيّا وقال درتان في وعاء ممتهن لقد رأيت حول صنعاء وفي ظل عدن خمائل كأنها بقية من ذي يزن الحب فيها سكر والماء شهد ولبن لم يرها الطير ولم يسمع بها إلا افتتن هيا اركباني نأتها في ساعة من الزمن قالت له إحداهما والطير فيهن الفطن يا ريح أنت ابن السبيل = ما عرفت ما السكن هب جنة الخلد اليمن لا شيء يعدل الوطن وكنا نحفظ تلك القصيدة وكل مدرسة يلحنها لها أستاذ الفنون حتى نتعلم إنه هب الدنيا كلها جنة الخلد فلا شيء يعدل الوطن. الوطن قيمة تربوية نشأنا عليها ونموت عليها.. أو هكذا أريد لنا أن ننمو وفي داخلنا هذا الوطن. ولا أدري هل هذه القصيدة تدرس الآن في منهج الأساس أم انتهت بانتهاء مراسم دفن العديد من مناهج التربية التي تعاقبت. أما الآن فقد أفقنا على قصيدة أخرى للشاعر قنطور المقطور تقول: مقطورتان في المرور جارتا على الوطن ففي خضم زحمة المرور هذه وفي خضم تزاحم العربات بالمناكب والتصادمات في الخرطوم تتمخطر رؤوس تجر من خلفها مقطورتين أو ترلتين أو أيهما الأطول. تنتشر تلك الرؤوس وسط الأحياء في مساحة تزيد على الخمسين متراً طولياً. وبالطبع فإن سائق كل رأس خلفه مقطورتان أو ترلتان، رجل ابن ناس وعنده خالة مريضة في الصحافة مربع عشرة أو الديوم مربع خمسة أو الكلاكلة مربع سبعة أو واحد عازمو غداء والعقد بعد صلاة العصر أو عنده واحد من البلد انتقل الى جوار ربه فكان لا بد أن يقود رأسه ومن خلفه الترلتان مربوطتان بالتتالي، وينحشر بكل ذلك وسط الأحياء أو يتمخطر بها في شوارع الخرطوم ويلف بها الصواني أو يهش بها على غنمه وله فيها مآرب أخرى، كأن يعرج على أحباب له يأخذ عندهم تعسيلة وليس كل من لقي رأساً خلفه ترلتان أو مقطورتان نسي أحبابه. في شوارع الديوم الضيقة هناك رأس يجر مقطورتين بالتتالي يصر أن يقف هذا الشيء العجيب في شارع عرضه «10» أمتار ولكن لكي يقف.. عليه أن ينعطف من شارع جانبي يلتف حوله كالأفعي في حركات تجعل كل سكان الشارع يشتركون معه. ارجع ورا.. لف الدركسون شديد.. لا مش كدا... لف على يمينك وبعدين على شمالك.. خلي بالك.. ما تضرب الحيطة.. لف.. أكسر.. يله طوالي... لا لا.. وهكذا. وعندما يأخذ ترطيبته ويهم بالخروج.. يتكرر نفس المشهد بالعكس. ولو كانت لي سلطة في المرور لحددت لكل رأس مقطورة واحدة أو ترلة واحدة. فحركة المرور لا تسمح ومما يعقدها أكثر هو تجول تلك الرؤوس وهي تجر من خلفها ذلك البضع من قطار ضل محطته فجاءنا يسعى بيننا مثيراً من الحوادث المرورية والاختناقات ما يجعل أمة بحالها تختنق في شوارعها. وإذا أردت أن تتأكد من أن منيّتك قد اقتربت وأن أجلك يدق على الأبواب حاول أن تتخطى واحدة من تلك الديدان الميكانيكية في طريق مدني. الشيء الذي لا أفهمه من أشياء كثيرة يستعصي عليّ فهمها هو كيف سمحت سلطات المرور لتلك الرؤوس لتجر من خلفها بدلاً من مقطورة واحدة مقطورتين وهي تعرف يبئر المرور وغطائها. وتعرف سعة الشوارع وما تستطيع استحماله من سابلة وراكشة وممجدة ومهيسة ومحفلة ومبصصة ومتردية ونطيحة وما أكل السبع من أموال بنك هامل وهي تحمل لوحات استثمار أو أمم متحدة. كل هذه تجدها تسرح وتمرح في شوارعنا. والأغرب من ذلك أن ظاهرة الرأس الذي يجر خلفه ترلتين ليس من قلة الرؤوس فالرؤوس والحمد لله قد استجلبها الناس من كل حدب وصوب وعدد الرؤوس الجاثمة بلا ترلات تفوق عدد الرؤوس التي هي من غير عمم. وحتى يشتغل الجميع لابد أن نركب لكل رأس ترلة. وبذلك نحل مشكلة الشاحنات ذات الخمسين مترًا طوليًا. ونحل مشكلة الالتفاف حول الصواني. فيا أيها الإخوة في المرور أوقفوا مثل هذا العبور لتستقيم الأمور وتنشرح الصدور وتنعموا بتجارة لن تبور. آخر الكلام: دل على وعيك البيئي.. لا تقطع شجرة ولا تقبل ولا تشترِ ولا تُهدِ هدية مصنوعة من جلد النمر أو التمساح أو الورل أو الأصلة أو سنّ الفيل وليكن شعارك الحياة لنا ولسوانا. ولكي تحافظ على تلك الحياة الغالية لا تتكلم في الموبايل وأنت تقود السيارة أوتعبر الشارع. وأغلقه أو اجعله صامتاً وأنت في المسجد..