أخي الصائم.. تُرى هل خَطَر ببالِك؟ وداعبَ خيالَك.. مِثْلُ ذلك الخاطرِ الرّبّانيِّ الذي خطر ببالِ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو صائم؛ فقد تذكَّر إخوانَه المجاهدين، وأسِفَ على فراقِ الصادقين، واشتاق إلى الرِّجال السابقين، وخَشِي أن ينقطعَ به الطريق، وتغرّه الدنيا بما فيها من زخرُفٍ وبريق! فقد روى البخاريُّ عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف «أنَّ أباه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أُتِيَ بطعامٍ وكان صائماً، فقال: قُتِل مصعبُ بن عُمير رضي الله عنه وهو خيرٌ منِّي؛ فلم يُوجَدْ ما يُكفَّنُ فيه إلا بُردةٌ؛ إنْ غُطِّيَ بها رأسُهُ بدتْ رجلاهُ، وإنْ غُطِّيَ بها رِجلاهُ بدا رأسُهُ، ثم بُسِطَ لنا من الدنيا ما بُسِطَ أو قال: أُعْطِينا من الدنيا ما أُعْطِينا وقد خشينا أن تكون حسناتُنا قد عُجِّلتْ لنا! ثم جعل يبكي؛ حتى ترك الطعام»؛ فأكْرِمْ به من خاطرٍ عاطِرٍ! وأنْعِمْ بهِ من قلبٍ عامرٍ! أخي الصائم.. تذكَّرْ بين يَدَي الإفطار إخوةً لك.. يُجاهدون في سبيل الله عزَّ وجلَّ، قد أنهكهم التعبُ، وأضناهم النصبُ، وعضَّهم الجوعُ بِنابِه، وأذاقهم العدوُّ سُوءَ عذابِهِ.. قد تركوا الأهلَ والدِّيار، وهبُّوا إلى قتال الكفار، ونذروا أرواحَهم للهِ الواحدِ القهّار! واللهِ لولا قوةُ إيمانِهم لكانوا قاعدِين مع المُخَلَّفِين، ولولا شدّةُ إصرارِهم ما فارقوا أهلَهم وديارَهم! ولولا حبُّهم للهِ ورسولِه وشفقتِهم على المسلمين ما هاجروا ولا جاهدوا؛ ولكنهم «رجالٌ صدقوا ما عاهدوا»! عجباً لك! كيفَ سال لُعابُك.. في انتظارِ المائدة.. وحَلا لك الطعامُ والشرابُ والفاكهة! ونسيتَ إخوانَك في فلسطين؟! وهم يتجرَّعُون مرارةَ الظلم والعدوان، لا يُساغُ في حلوقِهم الماء الزُّلال! ولا يحلو لهم شيءٌ ممّا يُشْتَرَى به أشباهُ الرِّجال! أم ترى قد أنستْكَ المائدةُ حربَهم الباسلةَ مع اليهود المعتدين؟ وحمايتَهم نيابةً عنّا لمقدَّساتِ المسلمين ودفاعَهم عن الأقصى المبارك مسرى رسولِنا الأمين، إنهم الآنَ في لحظاتِ انتظارِك للمائدة ينتظرون جولةً جديدةً ظافرة! من عمليّات الاستشهاد والقتال والحراسة؛ لردِّ الأشقياء الذين يغتالون العلماء ويُدمِّرون منازلَ الشهداء؟ فلا يكونَنَّ كلُّ هَمِّكَ انتظارَ أصنافِ الأكلات! وكيف تحلو في زمنِ المَذَلَّةِ المَلَذَّات!كما قيل: »لو سُقِيَ الحنظلُ بماء السكّر؛ لم يخرجْ إلا مُرّاً!« فإنما هي «لُقيماتٌ» تصيرُ بعد قليلٍ دنساً، وجرعاتٌ تستحيل بولاً! تلك المكارمُ لا قَعْبانِ من لبنٍ شِيبَا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا! أخي الصائم.. أما فكَّرْتَ في حال إخوانِكِ المجاهدين في العراق؟.. وهم يذُبُّون عن بلادِ الرّافِدَيْن، ويُنكِّلون بالصَّلِيبِيِّين، فيردُّون الصاعَ صاعَيْن؛ ويُذيقُونَهم كؤوسَ الموتِ والهوان؛ دفاعاً عن حمى دارِ السلام؛ فآخرُ ما يخطرُ على بالِهم ذكرُ الطعامِ؛ فلسانُ حالِهم: يقولُ ليَ الطبيبُ أكلتَ شيئاً وداؤكَ في شرابِكَ والطعامِ! وما في طِبِّهِ أنِّي جَوادٌ أضرَّ بجسمِهِ طُولُ الجِمامِ! تَعَوَّدَ أن يُغبَّرَ في السَّرايا ويدخلَ من قتامٍ في قتامِ! أخي الصائم.. أتُراك نَسِيتَ إخوانَك المُرابطين.. في كشمير وأفغانستان، والمجاهدين في الفلبِّين والشيشان... وقد تواطأ على حربِهم اليهودُ والنصارى والرُّوسُ والهندوس، وخذلهم حُكّامُ العربِ «البُزْل القناعيس»! أخي.. إن تلذَّذْتْ «عَيْنُك» بالنظرِ إلى هذه الموائدِ المُزْدَحِمة بالطعام والشراب؛ فإنّ لذَّةَ حُبِّ الجهاد وحُلمِ الاستشهاد قد كدَّرَ على المجاهدين كلَّ شراب! فرجاؤهم «عينٌ بكتْ من خشيةِ الله، وعينٌ باتتْ تحرسُ في سبيل الله»! فليس الطعامُ إلا ما علمتَ وأما الزاد الذي لا ينفد فلا يُؤتَى به في الموائد؛ بل هو هِبَةٌ من عند الله؛ فعضَّ عليه بالنواجذ! ولله درُّ ابن القيِّم حيث قال في شرح حديث «إنِّي أبيتُ عند ربِّي يُطعمني ويسقيني»: »المرادُ به ما يُغذِّيه الله به من معارفِهِ، وما يُفِيضُ على قلبِهِ من لذّةِ مناجاتِهِ، وقُرَّةِ عينِهِ بقُربِهِ، وتنعُّمِهِ بحُبِّهِ، والشوقِ إليه، وتوابِع ذلك من الأحوالِ التي هي غذاءُ القلوب ونعيمُ الأرواح، وقُرَّة العين وبهجة النفوسِ والروح والقلب؛ بما هو أعظم غذاءٍ وأجودُهُ وأنفعُهُ. وقد يَقْوَى هذا الغذاءُ حتى يُغنيَ عن غذاءِ الأجسامِ مُدّةً من الزمان، كما قيل: لها أحاديثُ من ذكراكَ تشغلُها عن الشرابِ وتُلهيها عن الزادِ! لها بوجهِكَ نورٌ تَسْتَضِيءُ بهِ ومن حَديثِكَ في أعقابِها حادي! إذا شَكَتْ من الكَلالِ أوعدَها رُوحُ القدومِ فتحيا عند مِيعادِ! ومن له أدنى تجربةٍ وشوقٍ يعلم استغناءَ الجسمِ بغذاءِ القلبِ والروحِ عن كثيرٍ من الغذاء الحيواني؛ ولاسيما المسرورَ الفرحانَ الظافرَ بمطلوبِهِ الذي قد قرَّتْ عينُهُ بمحبوبِهِ، وتنعَّم بقربِهِ والرِّضَى عنه، وألطافُ محبوبِهِ وهداياه وتُحَفُهُ تَصَلُ إليه كلَّ وقتٍ، ومحبوبُهُ حَفِيٌّ به مُعْتَنٍ بأمرِهِ مُكْرِمٌ له غايةَ الإكرام مع المحبَّةِ التامّة له؛ أفليسَ في هذا أعظمُ غذاءٍ لهذا المُحِبِّ؟ فكيف بالحبيب الذي لا شيءَ أجلُّ منهُ ولا أعظمُ ولا أجملُ ولا أكملُ، ولا أعظمُ إحساناً إذا امتلأ قلبُ المُحِبِّ بحُبِّهِ، وملَكَ حُبُّهُ جميعَ أجزاءِ قلبِهِ وجوارحِهِ، وتمكَّنَ حُبُّهُ منه أعظمَ تمكُّنٍ، وهذا حالُهُ مع حبيبِهِ؛ أفليسَ هذا المُحِبُّ عند حبيبِهِ يُطعمُهُ ويسقيهِ ليلاً ونهاراً؟!» أخي الصائم.. إنَّ إخوانَكَ الآنَ يَجِدُونَ أشدَّ ممّا تَجِدُ من الجوع والظمأ؛ ولكنَّهم لا يجدون أقلَّ الذي تجد من أصنافِ هذهِ الأطعمة! فكيف تنسى جوعَهم وبجهادِهم قد شبعتَ؟ وكيف لا تتذكَّرْ خوفَهم وبتعبِهم في حماية الثغورِ قد أمنتَ؟! ولكنَّ عزاءهم أنّ الله لا ينساهم ولن يَتِرَهُمْ أعمالَهم؛ «ذلك بأنهم لا يُصيبُهم ظمأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ في سبيلِ الله ولا يطؤون موطئاً يغيضُ الكفارَ ولا ينالون من عدوِّ نيلاً إلا كُتِبَ لهم به عملٌ صالحٌ إنّ الله لا يضيع أجرَ المحسنين ولا يُنفقون نفقةً صغيرةً ولا كبيرةً ولا يقطعون وادياً إلا كُتِبَ لهم ليجزيَهم اللهُ أحسنَ ما كانوا يعملون». أيها الصائم.. إنها خواطِرُ الإيمان في شهر رمضان فهذه أُمّتُنا قد أُثْخِنَتْ بالجراح؛ و«إنما المؤمنون إخوة» فلا أقلَّ من مُواساتِهم بقلوبِنا إذْ فاتَنا أنْ نُشارِكَهم بالأنفسِ والأموالِ والسِّلاح، سائلين اللهَ لإخوانِنا النصرَ والعزةَ والفلاح! وليتَ شعري كيف يحلو للصائمين الطعامُ والشرابُ وأمتُنا تُسامُ في كلِّ مكانٍ سوءَ العذاب؟! فمتى نشعر بأحوالِ المسلمين إذا لم نذكرْ الجائعين والمبتلين ونحنُ نشكو بعضَ ما يشكون ونجد بعضَ ما يجدون؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون! والآنَ قُلْ «بسم الله».. وكُلْ.. قبلَ أن يبرد الطعام! فوالله لقد قُتِل في زمانِنا من المجاهدين ما لا يُحصَى! وهُمْ واللهِ خيرٌ منِّا؛ وقد كُفِّن بعضُهم، ولم يُوجَدْ لبعضِهم جسمٌ يُوضَعُ في الكفن، فإن كان قد بُسِطَ لنا من الدنيا ما بُسِطَ وأُعْطِينا منها ما أُعْطِينا؛ فإنّنا لا ندري ماذا يكون مصيرُنا؟ فهل تُرانا نأمنُ مما خافه عبد الرحمن بن عوف قبلَنا؟ أم نقول على موائد إفطارنا ما قال سيِّدُنا: »قد خشينا أن تكون حسناتُنا قد عُجِّلتْ لنا«! _______ د. محمد عمر دولة