في حدث نادر بالنسبة لي، فاتني توثيق هذه المقولة، التي ظلت عالقة بذاكرتي لا تبارحها منذ عدة أشهر، المقولة هي: لايهم ما إذا كان لون القط أسود أم أبيض، طالما أنه قادر على ملاحقة الفئران، لذلك أعتذر عن أننى حين قرأتها لم أسجل اسم قائلها ولا متى قيلت وأين، وإن كنت أرجح أن صاحبها واحد من حكماء الصين المحدثين. كلما قرأت في الصحف المصرية ذلك الصياح المستمر الذي لا يكف عن التنديد بما يسمونه «الأخونة» (التي أعارضها إن صحت) أتذكر كلمات الحكيم الصيني وأعتبر أن السؤال الأهم الذي ينبغي طرحه هو ما إذا كان هؤلاء الذين يتم اختيارهم قادرين أم لا على تحمل مسؤولياتهم وملاحقة «الفئران» التي تكاثرت في حياتنا حتى حاصرتنا من كل صوب. قبل أيام حدثني أحد الخبراء المخضرمين المهتمين بالشأن الإستراتيجي عن مجموعة الضباط المصريين الذين تم اختيارهم مؤخرًا لشغل أعلى المناصب في القوات المسلحة والأمن، فقال إنه تتبع سيرتهم من زملائهم ومن خلال سجلاتهم، فتبين أنهم من طراز رفيع ونادر من العسكريين، الذين توافرت لهم صفات الكفاءة والشجاعة والمعرفة العميقة والاستقامة الأخلاقية، وهو الوجه الذيم لم يشر إليه أحد في ساحتنا الإعلامية، وإنما ظل تركيز أكثر الصحف المصرية منصبًّا على شيء واحد هو: هل لهم صلة بالإخوان أم لا. ذلك حدث أيضًا مع الضابط الذي تم اختياره قبل أيام متحدثًا باسم القوات المسلحة، ونشرت الصحف إلى جوار خبر تعيينه تعريفًا بسجله العسكري، الذي جاء مشرفًا ومدهشًا. حتى كنت أحد الذين استغربوا أن تجتمع كل تلك المؤهلات التي حصلها في شخص واحد. لست أرى أن كل الاختيارات التي تمت من ذلك القبيل، ولعل كثيرين يذكرون أنني انتقدت غياب المعايير الموضوعية في بعض الاختيارات التي تمت مؤخرًا، فيما نشر لي من قبل تحت عنوان «حد أدنى في المعايير» فى «13/9» لكنني أردت أن أنبه إلى الفكرة المتضمنة في المقولة سابقة الذكر. وقد أشرت توًا إلى أنني صرت أتذكرها كل يوم، حين أطالع في صحف الصباح العناوين والتعليقات التي تتناول التعيينات والتشكيلات الجديدة ولا تكف عن التساؤل عما إذا كان القط أسود أم أبيض، وهو تساؤل بات يكبر يومًا بعد يوم حتى صرنا على شفا قلب المعادلة، بحيث تصبح على النحو التالي: لا يهم أن تؤكل الفئران أو تنتشر إنما الأهم أن نتأكد أولاً مما إذا كان لون القط أسود أم أبيض. إلى ذلك الحد وصل الاستقطاب الذي أفسد علاقات القوى السياسية وكرس فكرة غلبة الذات على الموضوع، بما استصحبه ذلك من تراجع لأولوية المصلحة العامة وتقدم فكرة الحصص والأنصبة التي يحصلها كل طرف. التنافر بين القوى السياسية لم يدفع البعض إلى تغليب الشكل واللون على الوظيفة والدور فحسب وإنما جعلهم أيضًا يصرون على تجاهل وإنكار أي إنجاز إيجابي للطرف الآخر. طالعت قبل أيام تقرير الأمانة العامة لمجلس الشعب، عن أداء المجلس خلال الفترة التي عمل فيها قبل حله «من يناير إلى مايو 2012» ووجدت أن المجلس كان غارقًا في مشكلات الناس وهموم المجتمع، إذ أقر 12 قانونًا تعلقت بتعريفات أسر شهداء الثورة ومصابيها، وتعديل قانون العاملين لتثبيت العمالة الموسمية، وتعديل قانون التعليم لجعل الثانوية العامة سنة واحدة، وقانون الحد الأقصى للأجور، وتعديل قانون القضاء العسكري لوقف محاكمة المدنيين أمامه، وقانون التأمين الصحي على المرأة المعيلة، وقانون التأمين على الأطفال دون السن المدرسي «8 ملايين طفل»... إلخ. وجدت أيضًا أن لجان المجلس أنجزت 12 قانونًا آخر تعلقت بقائمة أخرى من مشكلات المجتمع، كانت جاهزة للمناقشة العامة، ولاحظت أن مناقشات المجلس فتحت ملفات حقوق العاملين المصريين في العراق والعمالة المؤقتة، وتعويضات الفلاحين الذين أُضيروا بسبب تفشي مرض الحمى القلاعية، وأزمات رغيف الخبز وتوفير البوتاجاز والبنزين، وأزمة ارتفاع أسعار الأسمدة الزراعية، إضافة إلى ملف إهدار المال العام في الصناديق والحسابات الخاصة.. إلخ. سجل التقدير أيضًا أن أعضاء المجلس وجهوا 911 سؤلاً إلى الحكومة وقدموا أكثر من 8 آلاف طلب إحاطة شملت العديد من القضايا التي تعكس معاناة الناس وتعبِّر عن همومهم، ولم أنس ما قاله أحد البرلمانيين القدامى عن أداء المجلس في تلك الفترة القصيرة، حين قرر أنه أنجز خلالها ما لم يستطع البرلمان إنجازه خلال عشر سنوات. شاءت المقادير أن أطالع بعد ذلك مباشرة مقالة كتبها سفير يرأس تحرير مجلة «شؤون عربية» التي تصدرها الجامعة العربية تطرق فيها إلى أداء البرلمان، وكتب عن التيارات الإسلامية التي مثلت فيه ما نصه: جاء أداؤها كاشفًا عن توجهاتها الحقيقية، مؤكدًا أن برنامجها ومشروعها لا يتعلق بمشكلات المجتمع الاقتصادية والمعيشية ولا يتوافق مع تأسيس دولة مدنية ديمقراطية، وإنما استهدفت السيطرة على السلطة لإقامة دولة دينية تتحقق بخطوات تدريجية عبر «تقية» لفظية متهافتة وتفسير خاص لحكم الشريعة يخدم أغراضها السياسية.حين قرأت هذا الكلام قلت إن السفير المحترم لم يتابع شيئًا من أعمال المجلس، وإنما شاهد بعض اللقطات التليفزيونية التي قام أحد الأعضاء فيها برفع الأذان للصلاة وأخرى لحلف اليمين حين أصر بعض السلفيين إلى إضافة عبارة «ما لا يخالف شرع الله إليه» واكتفى بذلك ثم شرع في تدبيج مقالته. إن الاهتمام بالأداء والإنجاز يتطلب بعض الصبر لاختبار قدرة «القط» على اصطياد الفئران ذلك صحيح لا ريب. لكن من الصحيح أيضًا أنه يتطلب درجة من التجرد والنزاهة في الحكم، لأن الكيد السياسي الحاصل في مصر دفع البعض ليس فقط إلى الانشغال بلون القط والانصراف عن دوره في صيد الفئران، وإنما أيضًا إلى محاولة التشكيك في هوية القط ذاته، والزعم بأنه نوع آخر من الفئران.