ما يجري على الحدود السورية التركية من توتر عسكري حالياً هو عبارة عن تبادل رسائل دموية بين الحكومتين في أنقرة ودمشق، تمثلت في القصف المتبادل الذي أوقع ضحايا في الجانبين. ربما يرى الكثيرون أن إقدام وحدات من الجيش السوري على إطلاق قذائف مدفعية على قرية تركية، ومقتل أم وأطفالها الثلاثة وإحدى قريباتها، هو خطوة غبيّة، تكشف عن قصر نظر، لكن الواقع مغاير لذلك في رأينا، وربما تكون خطوة مدروسة بعناية هدفها جر تركيا إلى صدامات دامية، وربما تفجير حرب إقليمية شاملة. النظام السوري يدرك جيداً أن السيد رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا الذي يخطط حالياً لتعديل الدستور بما يسمح له بتولي رئاسة الدولة، بحيث يصبح رئيساً لكل الأتراك، يملك صلاحيات واسعة وليس رئيساً لحزب العدالة والتنمية فقط، ويدرك أنه لا يريد الحرب بل ويتجنبها، لأن لديه الكثير مما يمكن أن يخسره ويفسد عليه خططه المستقبلية، وأبرزها نقل تركيا من المرتبة السابعة عشرة كأقوى اقتصاد في العالم الى المرتبة العاشرة، والحفاظ على نسبة نمو في حدود سبعة في المئة سنوياً. ما فعله أردوغان بإطلاقه مجموعة من القذائف على مواقع سورية مساء أمس الأول يذكرنا بما فعله الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون عندما أطلق «75» صاروخاً من ماركة كروز على مواقع للقاعدة في افغانستان، رداً على تفجيرها سفارتي بلاده في نيروبي ودار السلام عام 1998م، اي لامتصاص غضب الرأي العام وتجنب التورط في حرب. وفي المقابل ليس هناك ما يمكن أن يخسره النظام السوري، فهو في حالة حرب فعلاً، ويواجه حصاراً خانقاً وثورة مسلحة تريد إسقاطه صمدت لأكثر من عشرين شهراً، وحققت بعض النجاحات على الأرض من حيث زعزعة استقراره، وإغراقه في حرب استنزاف دموية أدت الى فقدانه السيطرة على عدة مناطق، خاصة المحاذية للحدود التركية. إنها مقامرة سورية محسوبة بعناية، نجحت في خلط الأوراق، وأربكت الحكومة التركية، ولكن هذا لا يعني أن النتائج قد تأتي عكسية في نهاية المطاف، خاصة إذا قررت المعارضة التركية الوقوف إلى جانب السيد أردوغان في حال تصاعد أعداد القتلى الأتراك بشظايا قنابل المدفعية السورية. إطلاق قذائف مورتر على قرية أكجاكالي التركية الحدودية، هو صرخة ألم سورية رسمية من الدور التركي في دعم المعارضة المسلحة وفصائلها المتعددة، ورسالة تحذير من إرسال أسلحة وصواريخ متطورة إليها قد تنجح في فرض حظر جوي من خلال شلّ فاعلية الطيران السوري، خاصة أن هناك سفينة أسلحة قادمة من ليبيا ومازالت رابضة في ميناء الاسكندرون محملة بالآلاف من هذه الصواريخ. ومن يقرأ ردود الفعل الغربية، ومن ثم التركية، على هذه «العملية الانتحارية» السورية حسب وصف البعض، يخرج بانطباع بأنها جميعاً تطالب بضبط النفس، والمطالبة هنا للطرفين التركي والسوري معاً، وتجنب توسيع دائرة الصراع. الدول الغربية اكتفت بالشجب، وسورية اكتفت بالاعتذار، وتركيا بالقبول، ولكن الرسالة وصلت الى انقرة واضحة المعالم: تريدون اسقاطنا أهلاً وسهلاً، فهذا قراركم، ولكننا لن نسقط وحدنا، ولن يكون هذا السقوط دون خسائر باهظة. صحيح أن الرئيس رجب طيب أردوغان عقد جلسة طارئة للبرلمان، واستصدر قراراً بتفويضه بشن حرب ضد سورية، مثلما عقد اجتماعاً مع قائد أركان الجيش التركي وقيادة حزبه، لكنه أكثر عقلاً وحكمة من استخدام هذا التفويض فوراً، فهو ليس قائداً عربياً يقرر وحده في قضايا مصيرية مثل السلام والحرب، وإنما قائد يحتكم إلى مؤسسات منتخبة، وديمقراطية حقيقية، وقيادة عسكرية لها ثقلها وكلمتها، والأهم من كل هذا وذاك أنه يضع مصلحة شعبه فوق جميع الاعتبارات. أردوغان يواجه معارضة داخلية قوية، ونسيجاً طائفياً هشاً، وكان لافتاً أن حصوله على تفويض بالحرب جاء بالأغلبية، وأن أكثر من مئتي نائب صوتوا ضده في البرلمان. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو ما إذا كانت القيادة التركية ستتفهم الرسالة السورية الدموية، وتخفف من دعمها للمعارضة المسلحة والجهادية منها على وجه الخصوص عبر تسهيل وصول الأسلحة والأموال إليها، أم أنها ستكثف هذا الدعم باعتبار ذلك رداً على هذا الهجوم السوري؟ ومن الصعب إعطاء إجابة حاسمة في هذا الخصوص، ولكن من المرجح ألا يأتي القرار التركي انفعالياً، بحيث تسقط تركيا في مصيدة الاستفزاز السوري وهي مفتوحة العينين، مما يؤدي إلى توريطها في حرب إقليمية طويلة، تضاف إلى حرب تجددت فجأة على أرضية الأزمة السورية مع حزب العمال الكردستاني التركي الذي يتبنى المعارضة العسكرية. والرسالة الأهم التي وجهها مسؤول سوري إلى أردوغان يوم أمس هي التي تهدد بتزويد الحزب الكردي المذكور بصواريخ «كورنيت» الروسية المضادة للدروع، التي تزدحم بها مخازن أسلحة النظام السوري، وأبلت بلاءً حسناً عندما استخدمها اللبنانيون أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006م، وحطمت أسطورة دبابة الميركافا فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية. إنها لعبة عض أصابع تجري حالياً بين تركيا وسورية، ولا شك أن الأضراس التركية أقوى وأكثر حدة بالمقارنة مع تلك السورية الهرمة والمسوسة بفعل عشرين شهراً من الحرب، ولكن هناك فارقاً أساسياً وهو أن الطرف السوري تعوّد على الصراخ من الألم، بينما لم يصرخ نظيره التركي ولو لمرة واحدة طوال السنوات العشرين الماضية على الأقل. وحلف الناتو خذل القيادة التركية عندما رفض التدخل في المرة الاولى عندما أسقطت سورية طائرة استطلاع تركية اخترقت مجالها الجوي، وكرر الشيء نفسه عندما طالبه أردوغان بالاجتماع لبحث الهجوم المدفعي السوري الأخير، والشيء نفسه فعله مجلس الأمن الدولي من خلال بيانه الانشائي. والأزمة قد تطول على الطريقة العربية، اعتذار من هنا وضبط نفس من هناك، انتظاراً لتصعيد آخر، بينما تتضاعف أعداد القتلى السوريين الأبرياء يومياً. والأسد لم يعد أسداً، وإنما نمر جريح، بل مثخن الجراح، والنمور الجريحة أخطر من غيرها. وينطبق عليه، أي الأسد، المثل الشامي المعروف «ضربوا الأعمى على عينه فقال ما هي خربانة خربانة».