المشرحة هي كلمة يكفي ذكرها لتتراكم كل الأفكار المخيفة في رأس المتلقي لأن ثقافة التعامل مع الموت ما زالت غير موجودة لدى الإنسان السوداني وفق ما يتماشى مع فطرته ولعل القصص والحكاوي التي تنسب للمشارح وخصوصاً التي استفادت منها صناعة السينما الغربية جعلت الصورة ترتبط بالأشباح وأفلام الرعب مما يجعلها مكاناً لا يرغب الكثيرون في دخوله ولا المرور بجانبه وحتى العاملين في نظرهم إن كل ما بداخلها أموات على الرغم من وجود حالات خرج منها أحياء من ثلاجات المشرحة كما حدث في جنوب إفريقيا عندما خرج رجل في ال«50» من عمره فقد الوعي داخل منزله في شرقي كيب تاون واعتقدت عائلته أنه توفي فاتصلت بحانوتي نقله إلى المشرحة. وبقي الرجل بالمشرحة «24» ساعة قبل أن يستيقظ وهو يصرخ ويطلب إخراجه من داخل المكان البارد.! لعل مثل هذه القصص هي التي جعلت تركيا تستعمل أجهزة إنذار تطلق عندما يكون هناك أحياء بالخطأ داخل الثلاجة.. مشارح السودان كثيرة ولها تاريخ طويل وارتبطت بالسياسة حيث انطلقت أكتوبر من مشرحة الخرطوم عندما خرج منها جثمان الشهيد القرشي تتبعه التظاهرات الهادرة، ومازال للمشرحة دور عظيم غير دورها الريادي في حفظ الموتى وتحديد أسباب الوفاة نجدها دائماً مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالشرطة في حل وتقديم الأدلة الدامغة التي تسهل الحلول.. «الإنتباهة» قامت بزيارة لمشرحة أمدرمان للحصول على إجابات لأسئلة تدور حول عمل المشرحة ومجهولي الهوية والأطفال مجهولي الأبوين وكيفية التحنيط وأشهر من دخلوا المشرحة فوجدت الكثير داخل هذا التحقيق.. توقفنا أولاً عند الوجه الثاني للمشرحة بعيدًا عن مسلسلات الرعب والفجيعة والعويل، يقول د.جمال يوسف مدير المشرحة: «نحن الذين نتحدث باسم الذين لا يتحدثون» ويتمثل ذلك في استلام الجثث وإعادة ترميمها وتحسين هيئتها خصوصاً ضحايا الحوادث والحرائق وتحطم الطائرات حتى يستلمها ذووهم بطريقة مقبولة، فهناك حوادث تتداخل فيها الأعضاء فيستحيل التعرُّف عليها إلا بالاستعانة بالطب الشرعي الذي يحدد أعضاء كل شخص على حده من خلال حجم الأعضاء المقطوعة والمتبقية، وإذا تعذّر يلجأ الطبيب الشرعي إلى أخذ عينات من الحمض النووي. تستقبل المشرحة يومياً عدداً يتراوح ما بين «24» جثث يومياً قد تكون قتل أو موت في ظروف غامض وتتعامل أيضاً مع المستشفيات، فليست كل الجثث مجهولة الهوية فقط هناك مجهولو الأقارب أي شخص له اسم وليس له أقارب أو شخص دخل الحوادث وتوفي وله شهادة وفاة ولكنه مجهول الهوية فيتم إحضاره للمشرحة للحفظ. يقول د.جمال دورنا تبليغ الأقسام بعدد الجثث وننتظر الفترة القانونية التي يمكن تحديدها تقريباً من «34» شهور أو لحين حدوث اكتظاظ وتكدُّس.. عندها تتم عمليات الدفن بعد عمل قائمة كاملة ثم يرفع خطاب للنيابة التي بدورها تعد بدورها تقريراً وإذنَ دفن ولكل جثة رقم ورقم شاهد في حال ظهر للشخص أقارب. سعة المشرحة بسيطة والمفترض أن تتسع ال«40» ثلاجة لأربعين جثة لكن نتحايل عليها لتتحمل الثلاجة الواحدة «10» جثث وثلاجات المشرحة إيطالية الصنع لا بأس بها مقارنة مع ثلاجات المشارح الأخرى التي تكون سعة الثلاجة الواحدة عشر جثث أو أربع برفوف مختلفة ولا بد أن تكون درجة الحرارة تحت الصفر. أثار إعطاء الجثث للجامعات لغطاً كبيرًا في إحدى الفترات مما استلزم توضيحاً من إدارة المشرحة التي أكدت أن هذا التعامل قد توقف الآن نسبة لما صاحبه من حديث عن بيع الجثث للجامعات والحقيقة أن المبلغ الذي يعطى للمشرحة «3» آلاف جنيه عبارة عن تكلفة التحنيط العالية لأن بها مواد غالية مثل الجلسرين الذي تحتوي الجثة على أكثر من ثلثيها جلسرين حتى يحافظ على مرونة العضلات ويمنع تصلبها فتظل حيوية كما كان الشخص على قيد الحياة حيث يتم سحب السوائل من الجثة والعمل على تجفيفها بأدوات خاصة، ثم حقنها بمعقمات سائلة تحتوي على الفور ماليدهيدوكلوريد الزئبق ولكن كل عمليات التحنيط متوقفة حاليا كما أكد د.جمال منذ 112010 إلى الآن بعد قرار رئيس النيابة العامة. إحصائيات المشرحة منذ نشأتها 2009 تم استقبال«340» جثة خلال شهور، وفي عام 2010 «843» جثة، وفي عام 2011 «912» جثة، و2012 حتى الآن «767»جثة. وبخصوص مجهولي الهوية تم دفنهم حسب الإحصائيات التالية: حسب الجنس عام 2009 تم دفن «340» جثة «60%» منها رجال و«18%» نساء و«22%» أطفال فيهم «65%» ذكور و«35%» آناث، في 2010 زادت نسبة الأطفال وأصبحت «29%»، في 2011 اختلفت النسبة بحيث أصبحت الزيادة في الوفاة الإناث أكثر من الذكور بنسبة«5446%». في 2012 حتى الآن دفنا «524» جثة كانت نسبة الأطفال فيها «11%» فقط في آخر دفن ولكنه زادت بشكل كبير حيث استقبلنا في الفترة الزمنية ما بين يونيو وسبتمبر نسبة هائلة. وتستقبل المشرحة يومياً ما لا يقل عن اثنين معظم وفاتهم تكون بضربة في النافوخ وأحياناً رمياً في المرحاض! عدد حوادث المرور من أهم عوامل الموت التي تفضي للوصول للمشرحة، تليها الأطفال مجهولو الأبوين حيث سجلت أم بدة وحدها العام الماضي «134» حالة وفاة، وهذا العام وصلت إلى «80» حالة حتى الآن. استقبلت مشرحة أم درمان منذ تأسيسها مشاهير نذكر منهم حميد وإيداهور وشقيق نهار وكان آل تبيدي أول جريمة قتل تدخل المشرحة. وأكد د.جمال أن قضيتي شيماء وجنان اللتين اغتصبتا في رمضان أكثر الجرائم التي ظلت عالقة معه بعد عودته للمنزل نظرًا لبشاعتهما وكان للطب الشرعي دور أساسي في حلهما. المشرحة ضيقة وتستوعب الكثير ومن هنا نوجه أن عمل الخير ليس مقصورًا على السبيل والمساجد فليس هناك أفضل من التوسعة على ميت فهل من مجيب؟!