وكمثال لمنهجية الدميري في تناوله للكائنات نستعرض هنا ما كتبه عن الأسد: يقول الدميري تحت باب الهمزة: الأسد من السباع معروف، جمعه أسواد وآساد والانثي أسدة «لم يثبت الدميري لفظ اللبوة أنثى للأسد». وله أسماء كثيرة، قال ابن خالويه للأسد خمسمائة اسم وصنعة، وزاد عليه علي بن قاسم بن جعفر اللغوي مائة وثلاثين اسماً فمن أشهرها: أسامة والبيهس والتاج والجخدب والحارس وحيدرة والدواس والرئبال وزفر والسبع والضعيب والضرعام والضيغم والطيثار والعنبس والغضنفر والفرافصة والتحسورة وكهمس والليث والمتأنس والمتهيب والهرماس والورد. وقد كني حمزة بن عبد المنطلب عم رسول الله صلي الله عليه وسلم بأسد الله، وكذلك قتادة، ففي صحيح مسلم في باب إعطاء القاتل سلب المقتول، أن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه قال: «كلا والله لا نعطيه لضبيع من قريش وندع أسداً من أسد الله تعالى يقاتل عن الله ورسوله» ويقصد حمزة. يقول الدميري: إن الأنثي لا تضع إلا جرواً واحداً تضعه لحمة ليس فيه حس ولا حركة، وتحرسه كذلك ثلاثة أيام ثم لا يفتح عينيه إلا بعد سبعة أيام من تخلقه، فإذامضت عليه بعد ذلك ستة أشهر استطاع الاكتساب لنفسه بالتعليم والتدريب، وللأسد من الصبر على الجوع وقلة الحاجة للماء ما ليس لغيره من السباع، ومن شرف نفسه أنه لا يأكل من فريسته غيره، فاذا شبع من فريسته تركها ولم يعد إليها، وإذا جاع ساءت أخلاقه، ولا يشرب من ماء ولغ فيه كلب، وقد أشار إلى ذلك الشاعر بقوله: واترك حبها من غير بغض وذاك لكثرة الشركاء فيه إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه روى ابن سبع السبتي في »شفاء الصدور« عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أنه خرج في بعض أسفاره، فبينما هو يسير إذ هو بقوم وقوف. فقال ما لهؤلاء القوم؟ قالوا: أسد على الطريق قد أخافهم. فنزل عن دابته ثم مشى إلى الأسد حتى أخذ بأذنه ونحاه عن الطريق ثم قال له: ما كذب عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: إنما سلطت على ابن آدم لمخافته غير الله، ولو أن ابن آدم لم يخف إلا الله تعالى لما سلطك عليه. ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على عتبة بن أبي لهب فقال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ... فافترسه الأسد بالزرقاء من أرض الشام، رواه الحاكم من حديث أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه، وقال حديث صحيح الإسناد، وإنما سماه النبي صلى الله عليه وسلم كلباً لأنه يشبه الكلب في رفع رجله عند التبول، وأورد الدميري قصة عن النبي دانيال، وأن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا كنت بوادٍ وتخاف فيه من الأسد أدع قائلاً : أعوذ برب دانيال وبالجب من شر الأسد. والقصة تقول إن النبي دانيال ألقى به أحد ملوك بني إسرائيل واسمه بختنصر في جب أو بئر وألقى معه أسداً.. إلا أن الأسد كان يلاطفه ويلحس جسمه دون أن يؤذيه.. ثم أن دانيال اشتهى طعاماً فأرسل الله له أرمياء بطعام فقال دانيال الحمد الله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد الله الذي لا يخيب من رجاه، والحمدالله الذي من وثق به لا يكله إلى سواه، والحمد الله الذي يجزي بالإحسان إحساناً، والحمد الله الذي يجزي بالصبر نجاة وغفراناً، والحمد الله الذي يكشف ضرنا بعد كربنا، والحمد الله الذي هو ثقتنا حين سوء ظننا بأعمالنا، والحمد الله الذي هو رجاؤنا حين تنقطع الحيل منا، «فاصبح هذا الحمد يعرف بحمد دانيال». وجاء في روضة العلماء أن نوحاً عليه السلام عندما غرس الكرمة «العنب» جاءه إبليس فنفخ فيها فيبست، فأغتم نوح لذلك وجلس متفكراً في أمرها، فجاءه إبليس فسأله عن تفكيره، فأخبره فقال له: يا نبي الله إن أردت أن تخضر الكرمة دعني أذبح عليها سبعة أشياء.. فقال أفعل، فذبح أسداً ودباً ونمراً وابن آوى وكلباً وثعباناً وديكاً، وصب دماءهما في حوض الكرمة، فاخضرت من ساعتها. وحملت سبعة ألوان من العنب، فمن أجل ذلك يصير شارب الخمر شجاعاً كالأسد وقوياً كالدب وغضباناً كالنمر ومحدثاً كابن آوى ومقاتلاً كالكلب ومتملقاً كالثعلب ومصوتاً كالديك فحرمت الخمر على قوم نوح. ويستمر الدميري في ذكر أخبار الأسد حتى يصل إلى ما ينفع الناس من طب ودواء من الأسد، وتلك وصفات قديمة أغلبها مبني على الخرافة وعلى كتب العطارين وأدويتهم، نذكر منها: قال عبد الله بن زهير صاحب الخواص المجربة: من لطخ بشحم الأسد جميع بدنه هربت منه السباع ولم ينله منها مكروه، وصوته يقتل التماسيح إذا سمعته.. ومرارة الذكر منه تحل المعقود من النساء إذا سقيت منها في بيضة في مستهل الشهر، ومن علق عليه قطعة من جلده بشعرها أبرأته من الصرع قبل البلوغ، فإن كان الصرع قد أصابه بعد البلوغ لم تنفعه. ولحمه ينفع الفالج، وقال هرمس الجلوس على جلد الأسد يذهب البواسير والنقرس.....الخ . ويعرض الدميري إلى ذكر ماذا تعني رؤية الأسد في النوم، وهو يعتمد على تفسيرات ابن سيرين للأحلام.. وكان الشيخ أبو بكر محمد بن سيرين رائداً من رواد تفسير الأحلام، وولد وتوفي بالبصرة عام 729م، ويقول في هذا المجال من بين الكثير من التفسيرات: من رأى في منامه أخذ جرو أسد في حجره فإن امرأته تضع له غلاماً إن كانت حاملاً، وإلا فإنه يحمل على حكره ولد أمير. وبعض المعلومات التي ذكرها الدميري معلومات حقيقية، مثل أن جرو الأسد يولد وهو أعمى، ويمكث مدة أسبوع حتى يفتح عينيه.. لأن الأسد يصنف هو والقطط في رتبة واحدة، ونحن نرى كل تلك القطط تولد دون أن تفتح عينيها. كما إن اهمية أن يلحس الأسد جروه وهو صغير لا يمكن أن تغفل، فقد لاحظ العلماء أن عملية اللحس أو اللعق هذه مهمة جداً لأنها تحفز كل أجهزة الجسم للعمل، وكانوا يجرون تجارب على الفئران، وكانوا يضعون الفئران الحُمَّل في أقفاص معقمة حتى تلد صغاراً في بيئة خالية من الجراثيم، ولكن الفئران وبالرغم من أنها تخرج من الأرحام مكتملة النمو.. كانت لا تعيش بل تموت بعد فترة قصيرة.. وبتقصي الأمر اتضح أنها لا تستطيع إفراغ مثاناتها، والسبب هو أنها حرمت من لحس أمها لها بلسانها.. وظهرت بعد ذلك أهمية هذا اللحس، إذ وجد أنه المثير الوحيد للأعضاء الداخلية لتعمل.. ولذلك فإن ما ذكره الدميري من أن جرو الأسد يبقي خامداً إلى أن ينفح فيه أبوه صحيح، لأن الجرو يحتاج إلى تحريك أعضائه وأنظمته الداخلية من خلال تلك العملية التي لو حُرم منها لما استطاع أن يعيش. - ما استعرضته هنا كمثال يوضح منهجية الدميري في التناول العلمي للتاريخ الطبيعي وعلم التصنيف، والذي هو رائده ومؤسسه. وغفر الله لي ولكم. آخر الكلام: ولا ما في داعي.