والله سبحانه وتعالى يقول: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ). انظر كيف قدّم الطائفين على القائمين وعلى الركّع السجود.. أولاً، لأن الطائفين جاءوا من بلاد بعيدة بقصد الطواف.. وثانياً لأن القيام والركوع والسجود يصحُّ من المسلم في البيت الحرام وفي غيره، وفوق ذلك فإن الطواف حول الشيء يدلُّ على الرابطة الوجدانية الوثيقة بين الطائف وبين ما يطوف به من شيء. قالت الخنساء: فما عَجُولٌ على بَوٍّ تُطِيفُ به٭ لها حَنِينَانِ إصغَارٌ وإكبَارُ والعجول هي الناقة إذا أرادوا لها أن تدرَّ اللبنَ جعلوا لها بواً وهو جلد صغير محشوُّ بالعشب الجاف في شكل ولدها فتظل تطوف به لا تفارقه.. وتدرُّ لبنها من أجله.. فيحلبونها.. فالإنسان في حالة التجرد الحسي والمعنوي يُقبل على الله ويحجُّ إلى بيته المحرم ويظلُّ يطوف به سبع مرات ليدلّ على أن أمره كله وحاجته كلها لا يقضيها إلا صاحب البيت، فيظل يطوف ويدعو ويسبح ويمجِّد. فإذا قضى طوافه انصرف إلى الصلاة فصلى ركعتي الطواف وعمد إلى زمزم فتضلع من مائها ولا يتضلع المنافق من ماء زمزم والتضلُّع هو الشرب مليّاً حتى يملأ ما بين أضلاعه.. وذلك أن الكريم إذا أعطاك أو حباك بشيء فمن الأدب أن تقبله وتظهر الرغبة فيه والسرور به والحاجة إليه تماماً مثلما حدث لأيوب عليه السلام لما شفاه الله سبحانه وتعالى وأنزل عليه بركاته وجعل يسقط عليه جراداً من ذهب وأيوب يقبل عليه ويملأ منه ثيابه حتى لم يبقَ ما يتسع للزيادة فقيل له في ذلك فقال: ومن يشبع من رحمة الله!!. لقد كانت زمزم رحمة ونعمة أنعم الله بها على إبراهيم وإسماعيل وذريتهما والتجرُّد المعنوي لا يقف عند حد.. ودلالته إطلاق الألوهية والربوبية لله سبحانه وتعالى واستغراق العبد كله في التوجه إلى الله دون سواه. فمن الطواف إلى السعي تشبهاً بالسيدة هاجر رضي الله عنها في الحالة التي كانت فيها من الوحدة والوحشة والحاجة إلى أن يمر بها بشر أو يأتيها فرج من عند الله.. فجعلت تصعد على الصفا وتنظر علّها ترى أحداً ثم تهرول إلى المروة فتفعل ذات الشيء.. حتى عادت ووجدت الماء قد نبع من تحت قدمي إسماعيل عليه السلام. ونحن نهرول بين الصفا والمروة مظهرين الحاجة والفاقة والرغبة في ما عند الله آملين أن نعود إلى ديارنا فنجد أن زمزم الخيرات والبركات والأرزاق قد نبع وتدفّق في رحالنا وركابنا أو في ديارنا. فإذا جاء يوم النفرة إلى عرفة استوى أمر جميع الحجاج المتمتع والمفرد والقارن ودخلوا جميعاً في نسك الإحرام وتوجهوا إلى عرفة للوقوف جميعاً في عرفة جزءًا من النهار وجزءًا من الليل.. وعرفة كلها موقف إلا بطن عرفة كما جاء في الحديث. والوقوف بعرفة هو غاية ما يسعى إليه الحاج ومن فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج.. ومن استطاع أن يقف بعرفة وهو محرم تم حجه وإن لم يطف قبلها ولم يسعَ. والدلالة الإيمانية في هذا الأمر شديدة الوضوح.. فالله يتَنَزّلُ يوم عرفة ويشرفُ على عباده الواقفين بعرفة يرجون رحمته ومغفرته وثوابه فيباهي بهم ملائكته.. ويُسرُّ بهم أيّما سرور ثم يغفر لهم جميعاً فيعودون إلى أهليهم كيوم ولدتهم أمهاتهم وتجردهم إنما كان لهذا اليوم.. فالمولود الجديد تلده أمه وليس عليه من الثياب شيء.. فإذا خرج من بطن أمه لفّوه في خرقة أو خرقتين ليس فيهما محيط ولا مخيط. وهكذا يخرج الإنسان الحاج من عرفة بعد الوقوف عليها مغفوراً له ليس عليه من الذنب شيء. فيتجه ليكمل باقي المناسك.. ولا يحل من إحرامه حتى يرمي جمرة العقبة الكبرى.. وهي الجمرة التي ترمز للشيطان الأكبر حيث اعترض طريق إسماعيل وإبراهيم ليثنيهما عن الاستجابة لأمر الله. ومن العجب أن أول ما يبدأ به الحاج المغفور له نزوله من عرفات أن يرجم الشيطان إيماءً إلى أن الشيطان لن يكون له دور في حياته بعد اليوم.. وبعد أن يفرغ من رجم الشيطان يبدأ في إقباله على الحياة فيتحلل التحلل الأصغر.. وذلك بالحلق والتقصير ولبس المحيط والمخيط ولا يمنع عن شيء إلا النساء والصيد. فإذا كان عليه هدي نحره وقدّمه لله سبحانه وتعالى لإطعام فقراء الحرم. والذبح نُسك من أفضل نُسك الحج وقد قالوا »أفضل الحج الوجِّ والثجِّ« والوجُّ هو رفع الصوت بالتلبية والثجُّ هو إنهار الدم. فإذا استطاع الحاج الذهاب إلى مكة لأداء الطواف وهو طواف الحج جاز له أن يتحلل التحلل الأكبر ويحل له النساء والصيد وربط التحلل الأكبر بالطواف له دلالاته الإيمانية.. وكان الحاجُّ يجدد العهد والميثاق ويؤكد على عبوديته لله وحاجته إلى عونه ورحمته ونعمته وكلاءته.. وأنه يقبل على الحياة مرة أخرى بهذا العهد وهذا الميثاق. فإذا عاد إلى مِنًى بقي فيها يومين أو ثلاثة ومن العجب أنه قد لا يبقى له من النسك بعد ذلك إلا الجمرات. فكأن الإشارة إلى أول تجربة في الحياة بعد عرفات حيث يظل الشيطان مترصداً للمسلم عمره كله ويومه كله فيشرع رمي الجمرات أول يوم صباحاً حتى المساء وبقية أيام التشريق من الظهر وحتى غروب الشمس.. لا يفعل المسلم من نسك الحج شيئاً إلا الجمرات.. ولكنه يصلي صلاته التي اعتادها. ويعيش المسلم أيام التشريق وهي أيام أكل وشرب وسرور وبيع وشراء ولكنه يتذكر كل يوم أن الشيطان بالمرصاد.. فيقتطع من وقته ساعة ليخزيه ويرجمه ويستعيذ بالله من كبره وشره.