لبث سيدنا نوح عليه السلام في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً.. فأخذهم الطوفان وهم ظالمون.. المتمعن في قراءة القرآن الكريم تتضح له صور الضياع و«الخرمجة» و«الدربكة» التي تحدث للناس في الآونة الأخيرة.. عدم الاتفاق وعدم الوصول إلى حلول تريح الناس من عذاباتهم ومعاناتهم، كلها أمور تحتاج إلى وقفة ولعل لنا في كلام الله سبحانه وتعالى عبرة وعظة ومواقف تحكي عن كل ما يدور اليوم من ضيق وضنك عيش وغلاء فاحش مس الغالبية العظمى بالضر والعذاب والألم.. وأسبابها. بغض البصر عن اختلاف ميول الكتاب الصحافيين واتجاهاتهم ومفاهيمهم وأهدافهم وهذا لا يمنع من وجود من يقول كلمة الحق في وقت يكون الناس فيه أحوج لهذه الكلمة.. وظلت العديد من الصحف تنادي بما يعانيه عامة المواطنين من فقر ومرض وضيق عيش وشظفه وغلاء في أسعار ضروريات الحياة حتى تفشت في المجتمع ظواهر نعتبرها دخيلة علينا.. وخطيرة للغاية بما فيها الجريمة التي اتخذت أشكالاً مختلفة ومتطورة.. هذا فضلاً عن استعار نيران الحروب المدمرة من عدة اتجاهات.. وتموت الأرانب وتتكسر الأعشاب الخضراء تحت أقدام الفيلة المتصارعة على السلطة.. مما يضعف اقتصاد البلد ويهز كيانها فتترمل نساء ويتيتم أطفال وصغار وتتضاعف أعداد المواليد مجهولي الأبوين ويكثر العوز والحاجة وسؤال الناس وعرض حالهم داخل المساجد وبيوت الله طلباً للعون والمساعدة وكل الجهات المسؤولة تسد أذنًا «بطينة» والأخرى «بعجينة» ولا تحرك ساكناً لإخراج الناس من هذا الحال «المايل» «المتهايل».. ظللنا ننادي عبر الصحف للمسؤولين بأن يصغوا «بأذن واحدة» والعمل بقدر المستطاع ولو بأقل من المستطاع لمعالجة الأوضاع المتردية هذي.. ولكن. في سورة «نوح».. جاءت الآيات تحمل وصفاً بليغاً لمن لا يريد أن يصغي أو يستجيب فقال تعالى على لسان نبيه نوح عليه السلام بعد أن ضاق ذرعاً من استهتار قومه بدعوته لهم وتنبيههم لما يمكن أن يلحق بهم من عواقب عدم الإصغاء والاستجابة بما ظل يدعوهم له قرابة الألف سنة.. «وقال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهاراً، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا..» .. فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا، مالكم لا ترجون لله وقارا.. ثم قال: قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا، ومكروا مكرا كبارا.».. ألا تستحق هذه الآيات الوقوف إليها وتكرارها والتمعن والتعمق والتدبر والتفكر وتشغيل العقل؟؟.. ونحن نتدبر.. لننظر إلى خريف هذا العام الذي رصدت له الملايين وتنبأت هيئة الإرصاد ونبهت إلى أنه سيكون خريفًا ثقيلا وأمطاراً عنيفة.. لم نسمع بها ولم نرها إلا عبر الصحف والأخبار وفي مواقع متفرقة وبعيدة.. وفي الآيات يقول تعالى على لسان نبيه نوح عليه السلام «وقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً.. يرسل السماء عليكم مدراراً» ومن هنا نستنتج أننا نسينا الاستغفار.. فكانت النتائج واضحة.. لأن السماء عندما تدر علينا يحدث بعدها الإمداد بالأموال والبنين والجنات والأنهار وعامة شعبنا اليوم يعيش فقراً مدقعاً وعوزاً شديداً.. فالاستغفار له من الفوائد دنيوية وأخروية ما لا تحصى ولا تعد.. وقد قال صلى الله عليه وسلم.. «أن من سره أن ينظر إلى صحيفته يوم القيامة يجد فيها استغفاراً كثيراً»..ونوح عليه السلام عندما بلغ مبلغاً من اليأس بعد أن استهزأ به قومه وبعد أن أهملوا دعوته ولم يتنبهوا لما ظل يحذرهم منه زماناً طويلاً وتيقن ألا فائدة من هؤلاء القوم وأن من يأتي من أصلابهم أيضاً سيكونون كفرة فجرة.. رفع يديه إلى السماء ودعا ربه.. «رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً» واستجاب الله سبحانه وتعالى لدعوته فكان الطوفان... والذي جاء وصفه كأبلغ ما يكون وفي آيات بينات ومفردات من العظمة والهيبة والقوة بمكان في سورة «القمر»: «كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر، فدعا ربه إني مغلوب فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر، وحملناه على ذات ألواح ودسر.. إلخ» والانهمار هو الانصباب الشديد، و«أمر قد قدر» هو المقدر و«الدُسُر» المسامير في السفينة التي تمسك الألواح بعضها مع بعض ثم قال «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر» بمعنى سهلنا لفظه ويسرنا معانيه لمن يريده وليتذكر الناس ويعتبروا به فهل من متعظ بهذه المواعظ؟؟ هذا غيض من فيض عظيم بين دفتي هذا الكتاب العظيم كتاب الله.. والذي قال عنه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم «لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً.. كتاب الله.. وسنتي». وكلمة نعيدها ونكررها وسنظل.. ليس لبلادنا وأهلنا وأمتنا مخرج من هذه الكوارث والأزمات والمصائب والضيق والغلاء والحروب والمطاحنات إلا ما ذكرنا.. فهل من مدكر؟؟.