بدأت قريحة الشعر عند صديق مدثر في وقت مبكر من عمره، ولكن قصيدته المشهورة «فتاة الوطن» التي يقول فيها: أنتِ نور ومنار في الطريق أنتِ في الدنيا لنا نعم الرفيق استكان الناس للنوم العميق فاقتدى شعباً غداً سوف يُفيق هي التي أبرزت تلك الموهبة الفذة في مجال الشعر والإبداع عمومًا، وقد شدا بها عميد الفن الأستاذ أحمد المصطفى. من حينها طفق صديق مدثر يصول ويجول في عالم الشعر فكتب في مجالات وأغراض شتى منها الشعر العاطفي والحب، والشعر الوطني أو السياسي، ورثى كثيراً من أصدقائه ومعارفه، وهذا لعمري إحساس نبيل امتاز به هذا الشاعر الوفي. سألت الأستاذ صديق مدثر عن العلاقة بين قصيدتيه «ضنين الوعد، والحبيب العائد» وكأنّ السؤال قد أثار قي نفسه لواعج الذكرى فتبسم وتهللت أساريره وقال: يا ابني إنّ ملهمتها واحدة، ولكني عندما كتبت ضنين الوعد وعرضتها على الأستاذ كرف قال لي: «لقد بدأت من القمة، فماذا تراك قائل بعدها؟» وحق لكرف أن يقول ذلك فهذه قصيدة متفردة في الشعر، فلنتأمل بعض أبياتها: أنا إن شئت فمن أعماق قلبي أرسل الألحان شلالاً رويّا وأبث الليل أسرار الهوى وأصوغ الصبح ذوبًا بابليّا لا تقل إني بعيدٌ في الثرى فخيال الشعر يرتاد الثريّا ومما يُلاحظ على هذه القصيدة أن حرف الروي فيها هو » الياء« وقيل إن هذا نداء يدل على ضعف وانكسار يتناسب وحالة الشاعر العاطفية، ولعل هذا ما نجده عند شعراء كثر قالوا الشعر في موقف ضعف مثل الشاعر الجاهلي عبد يغوث بن وقاص الحارثي الذي وقع أسيراً في إحدى معاركه مع قبيلة تَيْم فقال في قصيدة يطلب منهم إطلاق سراحه: ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا فما لكما في اللوم نفعٌ ولا ليا ومثل هذا نجده عند مالك بن الريب التميمي كما أشرنا وهو يرثي نفسه. وحرف الياء هنا مشبع بالفتح الممدود مما يعطي مجالاً لمد الصوت حنيناً، واستغاثةً، وأملاً، وبكاءً ورجاءً، وكل هذه تدل على الضعف الجائز حسب الحالة التي تُلم بالشاعر. ونلاحظ ذات الشيء عند مجنون ليلى، قيس بن الملوح حيث يقول في قصيدة طويلة: خَليلَيَّ لَيلى قُرَّةُ العَينِ فَاِطلُبا إِلى قُرَّةِ العَينَينِ تَشفى سَقامِيا ولم يسلم من ذلك الانكسار العاطفي الذي تمليه على الشاعر حالة الوله والهيام حتى محمود عباس العقاد فيقول: ألا من لنا في كل يوم بفرقة تجدد ليلات الوداع كما هيا ليال يبيح الدل فيها زمامه ويرخص فيها الشوق ما كان غاليا وبعد أن غنى الأستاذ الكابلي «ضنين الوعد» ووجدت قبولاً ورواجاً واسعاً، طلب محمد وردي من صديق مدثر أن يكتب له أغنية فجاءت «الحبيب العائد» التي يقول فيها: عاد الحبيب فعادت روحي وعاد شبابي يا شوق مالك ؟ دعني أما كفاك عذابي؟ لقد شربت دموعي أما سئمت شرابي؟ وهذه لعمري كلمات تفيض أملاً وفرحة وتفاؤلاً، وعاطفة جياشة تنم عن صدق المشاعر والحب، مع شيء من العتاب والاعتراف، وتعبير عن فرحة خجولة، وهل يفرح العاشق بشيء أكثر من عودة الحبيب إليه ولقياه؟ وستظل هذه القصيدة واحدة من أروع ما قيل في الشعر الغنائي السوداني، بيد أنها لا تضاهي ضنين الوعد فتلك، بشهادة كرف، قمة لا يدانيها شعر غيرها. في القصيدة السابقة ضن الحبيب بالوعد فكانت الشكوى والبكاء، وهنا عاد الحبيب فكانت الفرحة الممزوجة بالأمل والرجاء. ولو لم يكتب صديق مدثر إلا «ضنين الوعد» و«الحبيب العائد» و«فتاة الوطن» لضمنت له مكانة مرموقة بين فحول الشعراء، ناهيك عن تجربته الشعرية التي امتدت لأكثر من نصف قرن.. رثى صديق مدثر كثيراً من أصحابه كما أسلفنا، منهم محمد وردي، ونادر خضر، والشاعر محمد حسن حميد بقصيدة يقول فيها: وشارعكم لئيم الطبع في حلفٍ مع الزمن أضاف لحزننا حزناً ثوى حميدُ بالكفن فقدنا شاعراً فذاً يصوغ القول في لحن ولم يقنعْ فجاء اليوم يرهقنا بفقد النادر الفطن وإن كانت « فتاة الوطن» هي بداية رحلة صديق مدثر في مجال الإبداع، فإنّ آخر ما خطه الراحل قصيدة «لوعة الرحيل المفاجئ» في رثاء صديقه السفير/ كمال أحمد داود ونقتطف منها هذه الأبيات: ولمن سنلجأ بعده ونروحُ نطرقُ كلَ بابْ هل من مغيثٍ هاهنا؟ لاشيء يبتدرُ الجوابْ فلقد مضى الخلُّ الوفيُّ وبقيتَ وحدَك والسرابْ يتميز شعر صديق مدثر، في مجمله، بصدق العاطفة وعدم التكلُّف وسمو المشاعر، وسعة الخيال الفني، والرقي بالإحساس الذي يحلق بالقارئ أو المستمع في آفاق الخيال، ولا يرضى بما دون الثريا! وهو كما نلاحظ يبتعد عن الوصف الحسي والغزل المكشوف كالذي نجده عند شعراء الحقيبة حيث يبدو جلياً في هذه النماذج: خصرو ناحل وزاد جسمي إنحالو طرفو ناعس نام وطرفي يصحالو ويقول آخر: حليل الناسا وناسا طريت أم در حليل ناسا وكيف انساها وأتناسا ومفتون بي ظبي ناسا لم يستخدم صديق مدثر المحسنات اللفظية مثل الجناس والطباق الذي يظهر في الأبيات السابقة، وفي أغاني الحقيبة عموماً، على الرغم من معاصرته لكثير من شعرائها. علاوة على هذا، يتصف شعر صديق مدثر بجزالة اللفظ والابتعاد عن غريب اللغة، مع بساطة التركيب اللغوي، وهو، في ذات الوقت، عميق المعنى، وله جرس موسيقي واضح مما جعل قصائده المغنَّاة تجد قبولاً منقطع النظير، ولعل هذا هو سر روعة شعر صديق مدثر، وهو ذات السبب الذي يجعلنا نُطلق عليه عبقري الشعر السوداني.