من الشعراء العظام الذين ظلت سيرتهم تتواصل ثناءً معطراً في عالم التذكارات الموحية بكل ما هو جميل الشاعر الفذ مصطفى سند صاحب إشراقات النفس الإنسانية والقصائد الشعرية الخالدة والتي لم تكن وجوداً لديه إلا لنفسه الكبيرة الساعية نحو كل ما هو جميل. وبل من لدن الجمال البشري في عالمي الكتابة النثرية والشعرية وفوق كل ذلك أحد الدالفين نحو موسوعة الأفذاذ بتناوله الشيق والممتع لعدد من الظواهر الأدبية والاجتماعية. مما جعله أحد أصحاب الخصوصية في عالم نظمه الشعري مرايا تخطف الأبصار لكن ليلنا الصاحي وشرفتنا المسائية فوق رموشك التعبى ٭ بدايات ظهوره كشاعر تقول سطور حياته التي امتدت منذ يونيو (1936م) وحتى مايو (2008م) إنه نقش الشعر وهو طالب بمدرسة التجارة الثانوية. فكانت صحيفة الصراحة هي الصحيفة الأولى التي نشر فيها قصائده. ومن ذلك قصيدته التي كتبها منقحاً إياها عدة مرات عرفت حين يهبطون بعطش المدى ٭٭ وينبح الصدى على خطاك والمهاجرون واحداً فواحد ٭ صراعاته النفسية في مقتبل العمر بعد أن استقر به المقام موظفاً بمصلحة البريد والبرق لم يكن من بد من التفكير الجاد نحو بناء شخصيته بالقدر الذي كان لديه في تلك السنوات واقعاً تحت مسمى الجموح والعنفوان فانتمى لمجموعة محددة من الشباب لا هم لها سوى الترويج للرفض والمغامرة فكان حادي ركب الرفض للمسلمات المنطقية في حياة البشر. وهي التي كتب فيها بعد أربعين عاماً من أوبته نحو التصوف والمسبحة. المسرحيات تنوح من التعب ويشرب زيتها الليل المعلق في مطارات السهر هي أيام بل سنتين عانى فيها الشاعر من غربة نفسية أطاحته بعيداً عن عالم الواقع الحياتي. ففي جو مثل هذا نشط عدد من كوادر اليسار الاشتراكي (الحزب الشيوعي) في ضمه للحزب الذي لم ينتمي إليه طويلاً. ٭ ولوجه عالم ساس يسوس فنشط مصطفى سند داخل منظومة الحزب الشيوعي لسنتين. فكانت السنتان في عدادها لديه مضيعة للوقت. بعد أن رأى بأم عينيه اهتمام الرفاق بعالم السهرات وليل المثاقفة الممزوج بالمجون والتهتك. مع اقتناعه بعدم جدوى تلك الأفكار للحياة التي يود العيش في رحابها فكتب: على فمي تحجر الكلام ٭٭ ماتت العبارة ضاعت الرؤى الخضراء٭٭ ضاعت المنارة وهي قصيدة ودع بها الحزب الشيوعي غير عابئ بكثير تعليق للرفاق. فكانت صحيفة الأخبار في تلك السنوات هي الصحيفة التي يكتب فيها تلك القصائد. ٭ وداع الحزب الشيوعي بهجائياته المشهورة لم يطل به المقام كثيراً وسط عالم الشعر والسياسة فارتحل نحو جنوب السودان موظفاً ضمن طاقم العمل البريدي بكل من جوبا وتوريت، وبتوريت كتب قصيدة (البحر القديم) التي صارت عنواناً لمجموعته الشعرية الأولى. لا تأسوا لمن فاتوا ٭٭ فبعض مساكن تبقى وبعض مساكن تنأى ٭٭ فتدنيها المسافات تعلم وحدك التحديث نحو ٭٭ الشمس والمقل النحاسية ٭ تصويره لأحداث توريت (1955م) حين بقائه بالجنوب سمع من معاصرين في تلك الأيام (1961م 1962م) الكثير من فظائع الأحداث الدامية التي قام بها أفراد من جنوب السودان ضد الشماليين فكتب مصوراً القتل والسلب والنهب والتمثيل بالجثث قائلاً: في كل يوم تصرخ الأجداث نحن بنوك يا منخوبة الأحشاء ٭٭ ويا مطموسة الرؤيا وميتة الضمير هذى دماك تمصها الأعشاب ٭٭ يطفح لونها الزيتي في القنوات من يمسح الأخطاء فوق ٭٭ جبينك الممهور يوم العرش تسلم المهور ٭ قصة حبه التي لم تكتمل كتب سند بمداد النار والدم هذه القصيدة الأيقونة فكانت ذات جزئين الجزء الأول لمحبوبته التي لم يتزوجها.. الجزء الثاني في رثاء الحزب الشيوعي. وهو المقصود بقوله في قصيدة البحر القديم: أرخى وأزهر ثم طار ٭٭ زنابقاً كالفجر لامعة الخدود حلق المرايا دن كالطاؤوس ٭٭ وانقشعت شرارات الرعود فإذا هممت توارت الألوان ٭٭ وانقشعت شبابيك الجليد وهو ما عناه بانقشاع المخبوء لديه حيال حال الحزب الشيوعي آنذاك. ٭ الندوة الأدبية أخصب سنوات عمره بصحبة أدبية ظلت على مدار عشرين عاماً ظل الشاعر مكان إبداع متصل مع عدد من مجالسيه في عالمي الأدب والمهنة فكان مهدي محمد سعيد وعبد الله النجيب وعبد الله حامد الأمين والمجذوب فكانت سنوات الخصب الأدبي. التي ظهرت فيها قصائد على شاكلة قصيدة: (تراب المواجع). رأيتك في ليلة شاتية تحدق في ملياً ملياً وكنا حيارى نبيع التنقل للأمسيات ٭٭ ونصفى فبعض حوارك سبق تعلق بين جفوني وبين رنين التوهم والأمنيات أسأل علينا وحزنك فينا وفهقة شيء آخر تساقط مثل الدموع.. ٭ الرهق بسبب الكتابة منذ العام (1948م) وحتى مايو (2008م) ظلت حياته نهماً للترحال والعمل والكتابة والقلق وهي الأعوام التي تنقل فيها بالدراسة من مدرسة إلى أخرى ومن مدينة إلى ثانية ومن عمل بأقاصي البلاد. فكانت الأبيض (1952م) والتي درس بها المرحلة الوسطى. وجنوب السودان كموظف بريد (1962م) وبورتسودان (1980م) كأستاذ مدرب لموظفي البريد ثم ضابط اتصال بقنصلية السودان بقمبيلا الإثيوبية. وهو رهق جعله يعاني منه كثيراً حتى أوصله لمرحلة إجراء عملية قلب مفتوح في العام (1982م) بالسعودية وهي العملية الجراحية التي كتب عنها. ٭ سرعة استجابته للأحداث السياسية في قصيدته (الخروج) إشارات واضحة لحال الحزب الشيوعي بعد حادثة معهد المعلمين العالي التي أسيء فيها للإسلام وبيت النبوة فكان أن أمسك بقلمه ملهباً ظهر الحزب بسياط الشعر الذي بقي على مر السنوات شاهداً على تلك الفعلة النكراء. تتراكم الأوجاع إذ يتخير ٭٭ الداعون وجهك للعبور يتجادلون مع الرياح ٭٭ ويحرقون أكفهم بالنار حين تنزل الشكوى ٭٭ وترتفع النذور يا أنت... يا من عاد فيك الليل ينبح في القبور في سطور حياته الكثير والمتنامي إنتاجاً أدبياً. فهو من طليعة شعراء الصف الأول في القرن الماضي.