لا أريد أن أصدق أن السودان تخلَّى عن مصر فى موقفها من قضية سد النهضة الإثيوبي.. فإن ذلك سيكون بمثابة الفشل الثاني لمصر بعد فشلها في احتواء الموضوع منذ البداية مع إثيوبيا، الأمر الذي ينبهنا إلى أن ثمة ثغرة خطيرة في قنوات الاتصال مع الخارج، حتى فيما يخص الأمن القومي المصري، وهذه الثغرة ينبغي أن تحدد أولاً ثم تعالج بمنتهى السرعة والحزم ثانياً. لقد تحدثت صحيفة «الشروق» في تقريرها على صدر الصفحة الأولى أول أمس الجمعة، عن نقاط محددة في الموضوع في مقدمتها ما يلى: إن الخرطوم اتخذت خطوات غير معلنة بإعادة جميع أنشطتها في مبادرة حوض النيل دون التشاور مع مصر إن مصر معتمدة بشكل أساسي في صياغة موقفها على التنسيق مع السودان. ولذلك فإن لديها تخوفات من أية مفاجآت تصدر عن الخرطوم إن ثمة خلافاً بين البلدين كان يدور في الغرف المغلقة إلا أن الطرفين كانا يخرجان بموقف مشترك في نهاية المطاف. ونقل التقرير المنشور عن مصدر سوداني انتقاداً للموقف المصري تحدث عن نقطتين: الأولى أن القاهرة لا تزال تعامل السودان باعتباره الشقيق الأصغر. والثانى أن السد «الإثيوبي» له منافعه بالنسبة للسودان ويجب أن تضع مصر تلك المنافع في حسبانها، قبل التخوف من افتراض نقصان حصتها من المياه. لم يتسن لي التأكد من دقة هذه المعلومات. ولذلك سأظل عند تحفظي إزاءها. مكرراً أنها «إذا صحت» فهي تعني عندي أشياء كثيرة. وقبل أن أسجل ما لديَّ في هذا الصدد أنبه إلى عدة أمور منها ما يلي: أنه لا ينبغي أن تكون لمصر مشكلة في العلاقات بين الجارتين السودان وليبيا. وهذا ما سبق أن قلته أكثر من مرة، ليس فقط لأن الدول الثلاث تمثل أضلاع المثلث الذهبي التي يعد تكاملها شرطاً لنهضتها، ولكن أيضاً لأن تلك إحدى بدهيات الدفاع عن الأمن القومي المصري. إن العلاقات الإيجابية بين الدول حتى إذا لم تكن متجاورة لا يشترط لإنجاحها الاتفاق في كل ما هو معلق بينها من ملفات وقضايا. لكنها تقوم حين يتوافر الاحترام المتبادل فيما بينها وحين يدرك كل طرف بأن له مصلحة في التعامل مع الطرف الآخر. وتقاس الحكمة السياسية لدى الطرفين بمقدار قدرتهما على تحقيق المصالح والمنافع حتى في ظل استمرار الاختلاف بينهما. سيكون مدهشاً وصادماً أن تكون مصر قد فوجئت بتغيير الخرطوم لموقفها أكرر إذا صح الكلام المنشور تماماً كما فوجئنا بالتطورات التي حدثت في إثيوبيا. ذلك أن ما أفهمه أن مثل هذه الملفات المتعلقة بالمصالح العليا والأمن القومي للبلد لا تترك للمفاجآت، ولكنها تحتل موقعاً خاصاً لدى أجهزتها السياسية والأمنية، ويتفرغ لعلاجها وإجراء الاتصالات بشأنها أناس يجرون الاتصالات ويجمعون المعلومات ويحللونها، ويضعون التوصيات والخيارات أمام جهة القرار السياسي. وكفاءة تلك الأجهزة تقاس بمقدار قدرتها على التنبؤ وتصويب المسار بحيث تجنبنا أمثال تلك المفاجآت التي تمس المصالح العليا. وهذه بدورها بدهيات في العمل العام، يبدو أننا بحاجة إلى التذكير بها. إن ما بين مصر والسودان علاقات لها خصوصية شديدة، تتجاوز بكثير حكاية الشقيقة الكبرى والشقيق الأصغر وهذه الخصوصية إذا أخذت على محمل الجد فإنها تهيء مناخاً من الثقة والفهم يجنب كل طرف أن يفاجأ بسلوك أو موقف غير متوقع من الطرف الآخر. باعتبار أن انفتاح قنوات التواصل السياسية والأمنية يحول دون حدوث أمثال تلك المفاجآت. الأسوأ من المفاجأة السودانية أن تكون تلك القنوات قد أضعفت أو عانت من القطيعة والانسداد. بين القاهرةوالخرطوم. وذلك إذا كان قد حدث مع الأقربين فلا يستبعد حدوثه مع الأبعدين، الأمر الذي يعنى أن الأمن القومي للبلد في خطر محقق. إنني أتصور أن يكون ملف المياه والعلاقات مع السودان ودول حوض النيل في عهدة فريق عمل من الخبراء السياسيين والأمنيين الذين يقومون بالمهام التي أشرت إليها تواً. وحين نفاجأ بخطوة سلبية مثل تلك التي تحدثت عن تغير موقف الخرطوم، فذلك يعني أحد أمرين: إما أن ذلك الفريق غير موجود أصلاً، وهو ما أستبعده، أو أنه فشل في مهمته وهو ما ينبغي أن نتداركه. على الأقل من خلال إسناد الملف لمن هم أقدر على إدارته بنجاح. الاحتمال الثالث والأتعس أن يكون ذلك الفريق قد قام بما عليه، ولكن القرار السياسي أجّل حسم الموضوع، كما حدث في حالات أخرى، الأمر الذي يضعنا أمام مشكلة كبرى تحتاج إلى كلام أكبر.