في مقابل سخريته من المسلمين البدريين والأُحديين، الذين قاتلوا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، أبدى الدكتور محمد أحمد محمود تعاطفاً ملحوظاً مع من وصفهم بأنهم كانوا ضحايا الحروب النبوية من بني إسرائيل. والمعروف أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عاقب ثلاث قبائل يهودية من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة. وكانوا قد خانواعهودهم وغدروا بالمسلمين وبدأوهم بالعدوان. ولكن التف المؤلف على أسباب هذه الحروب ليجعل من ابتدروها وأشعلوا ضرامها من يهود ضحايا لها. تعاطف المؤلف مع بني قينقاع ومثلاً لذلك قال المؤلف في أسباب الحرب مع بني قينقاع: «وعقب انتصار بدر عزَّز محمد «صلى الله عليه وسلم» وضعه بتحركه ضد يهود بني قينقاع، وهو تحرك كانت له دوافعه السياسية والاقتصادية. ويبدو أن اعتبارات محمد «صلى الله عليه وسلم» السياسية كانت ذات طبيعة تحسبية واتقائية إذ كان متخوفاً من دخول اليهود في تحالف ضده«ص 162». فهو قد وضع النبي، صلى الله عليه وسلم، في موقف المعتدي البادئ بالعدوان، كما اتهم نفسية النبي، صلى الله عليه وسلم، بأنها نفسية تحسبية، بمعنى أنها تحسب كل صيحة عليها، وهو الوصف الذي أطلقه القرآن الكريم على يهود. وفي وصف نهايات المعركة قال المؤلف: «ولقد استسلم بنو قينقاع بعد أن حاصرهم محمد«صلى الله عليه وسلم» خمس عشرة ليلة، وبعد استسلامهم أمر محمد «صلى الله عليه وسلم» بربطهم وكتفهم. ويبدو أن نية محمد «صلى الله عليه وسلم» كانت متجهة أصلاً لقتلهم إلا أن ابن سلول تدخل بقوة لإنقاذ حلفائه». فهو يتهم نية النبي، صلى الله عليه وسلم، وكأنه تغلغل فيها وخبر طواياها، ويجعل الفضل في استبقاء بني النضير للمنافق عبد الله بن أبي سلول! تغافل المؤلف عن جرائم بني قينقاع لقد تغافل الكاتب الممالئ ليهود عن أسباب الصدام الأصلية. فقد كان يهود بنو قينقاع من قُطَّان أطراف المدينة الذين عاهدهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بموجب دستور المدينة على أن يتمتعوا فيها بحق المواطنة، وأن يشتركوا مع المسلمين في حمايتها ضد الغزوات الخارجية. ولكنهم خانوا العهد وانقلبوا على المسلمين وتحرشوا بهم، بعد أن طلب أحد شبابهم من امرأة مسلمة أن تكشف عن وجهها، وقام آخر بربط طرف ثوبها وعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشف جسدها. وهذه هي عادة اليهود الدائمة حتى اليوم في تعرية جسد الأنثى. وهذا عند العرب عار وشنار لا يمحو أثره إلا السيف البتار، فاستنجدت المرأة بقومها، فقام عربي بقتل يهودي، وقام يهودي بقتل عربي. وتطور الأمر إلى أن انتهى بقيام النبي، صلى الله عليه وسلم، بحصارهم في دارهم، ثم أجلاهم إلى أذرعات بالشام، حيث هلكوا تدريجياً، جزاءً وفاقاً. فقد كانوا لفساد في قلوبهم، وسفاهة في ألسنتهم، والتواء فيها، إذا جاءوا للنبي، صلى الله عليه وسلم، حيوه تحية مغلوطة يقولون فيها: السام عليك! والسام هو الموت. وما كان صلى الله عليه وسلم، يزيد في الرد عليهم على قوله: وعليكم! فأصابتهم دعوته الصائبة، وحقت عليهم دعوته الحق، وحاق بهم الموت الذريع بأذرعات. وقد روى العلامة الإمام ابن خلدون في كتاب العبر سبباً آخر لإجلاء القوم فقال: «وكان بنو قينقاع لما انصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من بدر وقف بسوق بني قينقاع في بعض الأيام، فوعظهم وذكَّرهم ما يعرفون من أمره في كتابهم، وحذرهم ما أصاب قريشاً من البطشة، فأساءوا الرد وقالوا: «لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا يعرفون الحرب فأصبحت منهم! والله لئن حاربتنا لتعلمن أنَّا نحن الناس». «عبد الرحمن بن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تصحيح خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، د. ت. ص 1048» وقد تجاهل الدكتور محمد أحمد محمود كل هذه المراجع البينة المتاحة، واسترَقَ حيثياته القاضية ببراءة بني النضير من كل ذنب، وبقسوة النبي، صلى الله عليه وسلم، عليهم، من مادة المستشرق اليهودي البولندي المعروف لقراء الأدب العربي البروفيسور كارل بروكلمان، الذي تناول الموضوع بالعاطفة نفسها. وزعم أن موقف محمد من يهود بني قينقاع كان أقسى بكثير من موقفه من الوثنيين المكيين الذين انتصر عليهم في بدر. وادعى بروكلمان أن رسول الإسلام قد حاول أن يكسب إلى جانبه يهود المدينة، مستخدماً أساليب السياسة اللينة معهم، وعندما لم ينجح لجأ إلى ممارسة الضغط عليهم بدءاً ببني قينقاع. وقال في هذه المعنى: «تأثرت اتجاهات النبي الدينية في الأيام الأولى من مقامه في المدينة بالصلة التي كانت بينه وبين اليهود، وأغلب الظن أنه كان يرجو عقب وصوله المدينة أن يدخل اليهود في دينه، وهكذا حاول أن يكسبهم عن طريق تكييف شعائر الإسلام، بحيث تتفق وشعائرهم في بعض المناحي، فشرع صوم العاشوراء، وهو اليوم العاشر من محرم على غرار الصوم اليهودي، في يوم الكفارة، الذي يقع عندهم في العاشر من شهر تِشرين. وبينما كان المؤمنون في مكة لا يصلون إلا مرتين في اليوم، أدخل في المدينة على غرار اليهودية أيضاً، صلاة ثالثة عند الظهر، وإذ كان في وسعه ووسع أتباعه أن يقيموا الصلوات منذ عهده بالمدينة جهاراً، ومن غير إزعاج، فقد عين منادياً للصلاة يعرف بالمؤذن، وليس من شك في أنه قد بدأ بذلك معارضته لكل من الديانتين الموحدتين... ولم يطل العهد بمحمد حتى تفجر النزاع بينه وبين أحبار يهود». «كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب العربية، ترجمة أمين فارس ومنير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، ص 64 47». تصفية الإعلاميين المعتدين ولدى تناوله حوادث التصفية الجسدية التي نالت من نالوا من عرض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، آثر الدكتور محمد أحمد محمود أن يصورها على أنها من أحداث الإرهاب الذي سلطه المسلمون على يهود أبرياء ضعفاء كان من بينهم امرأة مرضع وشيخ فانٍ، وقصد المسلمون بها نشر جو من الرعب بين أهل المدينة من غير المسلمين. وزعم الدكتور أن كان كل ما جناه هؤلاء الذين قُتلوا هو أنهم مارسوا حرية الفكر «والإبداع» فصاغوا شعراً هجوا به النبي صلى الله عليه وسلم: «وما جناه هؤلاء الثلاثة من جرم لا يغتفر في نظر محمد «صلى الله عليه وسلم» كان أنهم قد قرضوا شعراً في هجائه والتعريض به» (ص 163) أي شنوا هجمات إعلامية شرسة عليه بالتعبيرالدارج الحديث!. وكان اليهود قد انزعجوا من انتصار المسلمين في بدر، ومن تحول ميزان القوة العسكرية لصالحهم. ولذلك حركوا آلتهم الإعلامية الرهيبة للتمهيد لحرب المسلمين وانطلقت أشعار المجان من شعرائهم من أمثال أبي عفك العوفي، وعصماء بنت مروان، وكعب بن الأشرف تبث مشاعر الكراهية والحقد على المسلمين، وتحرض القبائل على حربهم. ولذلك سارع المسلمون بتصفية هذه الأبواق الموتورة، حتى لا تنشب الحرب بسبب من تحريضها وإرجافها. وتستحق قصة من قصص تصفية هؤلاء الشعراء المُجَّان ذكراً خاصاً، نكشف به عن أسباب قتل الشاعر كعب بن الأشرف، لنرد بذلك على الضجيج الكثيف، الذي أثاره المستشرقون اليهود قديماً، وأثاره هذا السوداني السائر على خطاهم حديثاً. كان المدعو كعب بن الأشرف رجلاً من طيء، وأمه من بني النضير، فهو يهودي بهذه النسبة. ومما أثبته ابن هشام عنه أنه ظل يحتقن الحقد على المسلمين منذ يوم ظفرهم على كفار قريش ببدر. وحين بلغه خبر النصر، قال: «أحق هذا؟ أترون محمداً قتل هؤلاء.. فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها». «محمد بن عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ شلبي، د ار إحياء التراث العربي، بيروت، المجلد الثالث، ص 54» ولما تأكد لديه الخبر خرج إلى مكة، وجعل يحرض على رسول الله، وينشد الأشعار الفاحشة في هجاء المسلمين، والتشبيب بنسائهم. وعندها دعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من يقوم بقتله. وتظاهر لقتله كل من محمد بن مسلمة، وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة، وعباد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر، ثم قدموا إليه بحصنه وقتلوه بخدعة والحرب خُدعة. واستحق كعب تلك القِتلة، إذ أجمع الرواة بلا استثناء، على أنه كان شاعراً بذيئاً، متفحشاً، يسب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويهتك أعراض المسلمات المحصنات، ويحرض على حرب المسلمين. والشعر في الماضي لا يشبه في فعله في ميدان الحرب وعلاقات الأمم، إلا فعل الآلة الإعلامية الجبارة الضخمة، في التمهيد للتحركات العدائية الظالمة في فعل الدول الكبرى اليوم، وفي تبرير أفعالها المنكرة الشريرة، فهي تهييء المسرح لتلك الأفعال في البدء، وتبررها في المختتم. ولذلك فإن القول بأن وسائط الإعلام التضليلية التحريضية شريكة في شن العدوان، وبادئة به هو قول صواب. وحسب مقتضيات القانون، أي قانون، فإن من يحرض على الجريمة يستحق أشد العقاب. وعقابه يكون على الدوام من جنس الجرم الذي حرض عليه. وقد كان ذلك هو التصرف النبوي السليم الحكيم الذي استأصل ذاكم الصوت الإعلامي الأثيم. وإن سأل سائل هل يجوز فعل هذا بإعلاميي اليوم وهم أشد فساداً وإفساداً من إعلاميي الأمس فالجواب يجيء نفياً. فليس لأحد غير رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يفعل هذا. وعلى الجميع أن يحتكموا للقضاء القانوني العادي العادل.