سمى الله تعالى في القرآن يوم بدر بيوم الفرقان؛ لما كان فيه من التفريق بين الحق والباطل، وظهور نبينا صلى الله عليه وسلم على قومه من المشركين .. ولست أريد أن أذكر ما جرى من أحداث في هذه الغزوة المباركة، وإنما أردت أن أثبت بعض ما اشتملت عليه من فوائد عظيمة يحتاج إليها كل مسلم ، فمن ذلك: أنّه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى ، فلقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يعلمون أنّ اللقاء سيكون بينهم وبين جيش مكة الذي استنفره أبو سفيان . من مهمات الفوائد أنّه لا عز ولا مجد ولا سيادة ولا ظهور إلا بإحياء شعيرة الجهاد في سبيل الله ، بها علت راية لا إله إلا الله، وبها كتب الله الظهور لدينه ، والله تعالى وعد في القرآن الكريم بإظهار دينه في ثلاثة مواضع ، وفي كل موضع منها يذكر الله الجهاد قبلها وبعدها، وهي رسالة تقول لنا : إنه لا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بالتمسك بديني وإقامة شعيرة الجهاد في سبيلي . وهل أدل على ذلك من حديث نبي الله صلى الله عليه وسلم :»إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ« . اليقظة والانتباهة في قيادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقد علم بخروج أبي سفيان إلى الشام وتعرض له وأفلت منه ، وها هو صلى الله عليه وسلم يعلم برجوعه ويخرج بأصحابه لمقابلته ومن معه . }وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ{ ، وفي النساء : } فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا{ . فلقد كان أمر الكثيرين كما قال الله :} وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ{ . فعلى المسلم أن يسلم لأمر الله ، فإنه لا يدري أين الخير لنفسه، فخيرة الله لنا خير من خيرة أنفسنا لأنفسنا . بركة الاستشارة ، فلقد استشار صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو نبي يوحى إليه، قال الله له :} وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ{ . فضل الصحابة . فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما استشارهم »قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: »يا رسول الله امض لما أراك الله، فنحن معك والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »أشيروا علي أيها الناس« وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الانصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال: :» أجل «. قال فقد آمنا بك، وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصُبُر في الحرب ، صُدُق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشطه ذلك ، ثم قال: »سيروا وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم » هكذا رواه ابن إسحاق رحمه الله« . وفاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى مع الكافرين ، فقد ورد في دلائل النبوة للبيهقي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :»من لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله« ، ثم أورد البيهقي قول ابن إسحاق :« وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكفَّ القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ، وكان لا يؤذيه ، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه. وكان ممن قام في نقض صحيفة المقاطعة . . فما أحوجنا إلى وفاء النبي صلى الله عليه وسلم مع أعدائه بين إخواننا !! الحق منصور ولكنه مبتلى ، ولابد من سنة التدافع بين أهل الحق والباطل ، فالفائز من استعمله الله ليعلي به دينه ، وإن ربك غني عن العالمين . الحرص على عدم مخالفة أمر الله ، فليس بين الله وبين عباده من نسب ، قال تعالى :} لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا{ , ففي صحيح مسلم قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أَسَرُوا الْأُسَارَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ :»مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى« ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ ؛ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: »مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ« ...- فقال ما تقدم ذكره في الفائدة السابقة ثم قال عمر - : فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :»أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ« ، شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :} مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طيباً{ ، فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ . والكتاب الذي سبق :} الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء{ .