تمثل التظاهرات الفنية في كل دول العالم فرصة طيبة للتعارف وتلاقح الأفكار والرؤى بين المشاركين في هكذا فعاليات. وبذات القدر فإنها فرصة جيدة لعكس ثقافات الدول والشعوب وطرح عاداتها وتقاليدها على العالم في وقت أصبح فيه الحفاظ على الهوية أمراً عسيرًا في ظل انفتاح إعلامي وتقاني لا يكاد يتوقف مده. ولقد تابعت في بدايات الشهر الجاري حدثًا ثقافيًا صغيرًا جرت فعالياته في دولة المغرب في مدينة أصيلة الساحلية. وهي مدينة صغيرة تقع على الساحل الشمالي الغربي للمغرب. وتُعتبر من المدن التاريخية القديمة. ويقال إن اسمها قد كان «أزيلا» وهو يعني باللغة الأمازيغية المنتشرة في المغرب «الجميلة»، ولكنه بمرور الوقت وغلبة اللسان العربي قد تحول الى أصيلة. هذه المدينة تنعم بهدوء المدن الصغيرة التي تقارب القرى في طابعها الريفي وذلك طوال العام عدا شهرًا واحدًا ينقلب فيه حالها فتضج بالحياة وتمتلئ شوارعها وأزقتها بالزائرين من مختلف دول العالم، حيث يشهدون انطلاقة موسمها الثقافي السنوي والذي هو بمثابة مهرجان دولي يؤمه الفنانون والرسامون والموسيقيون والكُتَّاب بل وحتى الدبلوماسيون من مختلف أنحاء العالم. بدأ مهرجان أصيلة كفكرة قبل نحو 35 عامًا، وذلك في محاولة لترميم المدينة الأثرية ثم تحوَّل من بعد ذلك إلى عادة يمارسها سكان المدينة فاجتذبت إليها السياح بمختلف فئاتهم، مما جعل البلدة تعيش في هذا التوقيت شهراً كاملاً من الحياة الصاخبة. فتتحول شوارعها إلى معارض فنية مفتوحة، وتمتلئ جدرانها بالرسومات المبهرة.. حيث تتحول الشوارع إلى لوحات جدارية تعطي البلدة طابعًا فريدًا تكاد تتميز به عمّا عداها في هذه الفترة من العام. وتبقى هذه اللوحات الجدارية لمدة شهر كامل هي فترة المهرجان وذلك قبل أن تُطلي الجدران مجددًا باللون الأبيض بانتظار فنانين آخرين سيأتون في العام القادم لتعاد الكرة مرة أخرى. وفي خلال هذا الشهر تقام العديد من البرامج المصاحبة حيث تفتتح العديد من المعارض الفنية في الهواء الطلق وذلك لهواة اقتناء التحف الفنية وما يماثلها فتشهد الحركة التجارية الفنية رواجًا غير مسبوق. كما تقام العديد من العروض الموسيقية والمؤتمرات الفنية والفكرية على مختلف المستويات، ويكاد المهرجان أن يستقطب الكثير من الشخصيات المرموقة على الساحة الدولية سياسياً وثقافياً ودبلوماسياً. ولهذا فهو فرصة سانحة للمغرب كدولة لخلق علاقات دبلوماسية مع الآخر تقترب أو تكاد من الدبلوماسية الشعبية الرسمية في آن معًا. وهو كسب يعتبر كبيراً جدًا في عالم اليوم. ومن أكثر ما شدَّني في هذا المهرجان هو محاولته بناء علاقات متميِّزة بين المغرب كدولة وشعب وبين محيطها العربي والإقليمي. فالمهرجان وسنويًا يختار دولة ما لتكون بمثابة ضيفة شرف، حيث تقوم بعرض ثقافتها من خلال مجموعة من العروض الفنية والموسيقية وكذلك الندوات والمؤتمرات، وقد حلَّت الإمارات العربية المتحدة كضيفة شرف للمهرجان لهذا العام. لقد تابع الكثيرون في العالم فعاليات المهرجان من خلال الوسائط الإعلامية والقنوات الفضائية، وقد كان بحق أبلغ من آلاف الرسائل الإعلامية التي يمكن أن تُستخدم لتعكس الثقافة المغربية بكل تفاصيلها وتفصيلاتها. وقد سلَّط الضوء على كثير من الأشياء الصغيرة في الحياة داخل المغرب والتي لا يمكن بحال معرفتها إلا لمن يزورها، ولكن فعاليات المهرجان استطاعت نقل صورة دقيقة وشفافة وبكل التفاصيل الممكنة، وهو ما أعتقد أنه هدف رئيس من مثل هكذا فعاليات. بل إن المكسب الكبير الآخر برأيي هو في التلاقح الفكري الذي مثله كثير من الوافدين من خارج المغرب والذين استطاعو التعرف على الحياة المغربية عن قرب وبأكثر من ذلك التعرف على الإنسان المغربي بكل تفاصيل يومه وعلى مدى شهر كامل. وهو ما سيساهم في نقل صورة المغربي إلى كل العالم خاصة إذا أدركنا أن المهرجان قد أمَّه ويؤمُّه كثيرٌ من السيَّاح من أوربا وبعض الدول الأخرى. إن المغرب الآن دولة تكاد تنهض من جديد من بين أنقاض كثيرة خلََّفها المستعمِر، ويكاد يسري في مجتمعها تيار رفيق رقراق من العودة إلى الجذور العربية والإسلامية بعد تغرب دام أمداً، وهو شيء قد أصبح ينعكس على كثير من ملامح الحياة فيها ولكن بلا صخب ولا ضوضاء. فلا تكاد تسمع شيئًا عن دعوة صريحة لشيء ما أو فعل ما، ولكن ملامح العودة إلى الإسلام تتخذ الكثير من الأشكال الهادئة الناعمة والتي تسري في الجسد المغربي كسريان الروح دون أن يحس بها أحد.