ظل التعاطي الأمريكي مع القضايا السودانية محل شك وريبة منذ التوقيع على اتفاقية نيفاشا، إذ بدا الدور الأمريكي تجاه الأزمات السودانية والتي تفتعل أمريكا بعضها «ابتزازيًا» أكثر من كونه دورًا «وسيطًا»، وبدت الإدارة الأمريكية من خلال ذلك الدور تستخدم القضايا والأزمات السودانية أوراق ضغط تستخدمها تجاه السودان لإرغامه على المزيد من التنازلات لصالح أمريكا وحليفتها الحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب... هذه الحقيقة يبدو أن الخرطوم تبيَّنتها بشكل قاطع وأدركت أن أمريكا ليست وسيطًا محايدًا خاصة بعد اتهام وزير الخارجية علي كرتي لها بتعقيد بعض القضايا والملفات مثل قضية الديون الخارجية وملف أبيي، ويبدو أنَّ هذه السياسة الأمريكيَّة تجاه السودان والتي لم تتغيَّر قط هي ما حملت «كرتي» إلى المخاشنة وركل اللغة الدبلوماسية الناعمة واستبدالها بأخرى أكثر قوة ومواجهة، ولعل ذلك يبدو من التصريحات الأخيرة لكرتي والتي شكك من خلالها في مهمة المبعوث الأمريكي الجديد الذي أنهى أول زيارة للسودان أمس.. وزير الخارجية الأستاذ علي كرتي أكد من خلال تصريحاته والتي انتفض خلالها في وجه السياسة الأمريكية تجاه البلاد وقال إن الولاياتالأمريكية تسعى لفتح «باب الجحيم» بين الخرطوم وجوبا مبدياً موقفاً جديداً للحكومة تجاه علاقتها مع أمريكا. وأكد كرتي أن السودان لن يسمح للمبعوث الأمريكي بأن يكون وسيطاً في أبيي وأن قضية أبيي لن تكون سوداوية ظلامية، حتى تبحث واشنطن عن شوكة للطعن بها في حلق البلدين. بل وأكد مجدداً أن المبعوث الأمريكي دونالد بوث لن يكون مرحَّباً به إذا كان يعتزم أن يقدِّم نفسه وسيطاً في قضية أبيي. هذا الموقف يُعتبر موقفًا جديدًا في السياسة السودانية تجاه التعامل مع الولاياتالمتحدةالأمريكية التي اعتادت أن يكون نصيب السودان في العلاقات الثنائية هو تنفيذ مطالبها فقط وأن يردِّد «نعم» كلما كان هناك المزيد من المطالب الأمريكية. واعتبر بعض المتابعين أن الموقف الجديد في العلاقات الثنائية «صحوة سودانية» أمام أطماع واشنطن، واعتبر الكاتب الطيب مصطفى في عموده «زفرات حرى» ب«الإنتباهة»، اللغة التي تعامل بها كرتي مع الإدارة الأمريكية التي اعتادت توجيه السياسة السودانية حسب إرادتها لغة جديدة لم تكن موجودة من قبل. ويجد المتتبع للساحة أن الخرطوم بدأت غير ما كانت عليه سابقاً في تعاملها مع أمريكا. وأنها صحت أخيراً بحسب بعض المتابعين لملف العلاقات الأمريكية السودانية. سياسة العزائم ويقول المحلل السياسي الدكتور عمر عبد العزيز حول الموقف الجديد للحكومة السودانية في علاقتها بالولاياتالمتحدةالأمريكية إن السودان ومنذ علاقته الأولى مع الولاياتالمتحدةالأمريكية إبان مفاوضاته مع الجنوب كان متساهلاً أكثر مما يجب وقاد ذلك التساهل للانفصال الذي لعبت فيه أمريكا دوراً محورياً، ومن وقتها تبين لي أن السياسة المناسبة في التعامل مع أمريكا هي «سياسة العزائم» مشيراً إلى أن الاستسلام المطلق الذي عامل السودان به المبعوثين الأمريكيين كانت نتائجه دائماً عكسية، وأن موقف كرتي الذي أبداه الآن هو الصواب، مبرراً ذلك بأن مجرد الاعتراف بهم يعطيهم القوة السياسية، وقال إنها تسعى من وراء هذا التدخل إلى اختطاف ملف الوساطة من يد الاتحاد الإفريقي طالما أن الاتحاد استنكر ورفض أي استفتاء أحادي في أبيي، وقال إن موقف السودان الجديد كان قوياً، خاصة أن أمريكا دولة غير محايدة وأن الاتحاد الإفريقي بموقفه المتذبذب هذا أفضل لنا من موقفها غير المحايد مشيرًا بذلك إلى أن موقفها من الجنائية ومحاولاتها المستميتة للقبض على الرئيس البشير يوضح مدى تربصها بالسودان. وأكد د. عمر أن المبعوث الأمريكي ليس وصيًا على السودان وأن من شروط الوساطة التي يريد أن يلعبها بين الخرطوم وجوبا لا بد أن يقبل به الطرفان وأن ما يقوم به هو محاولة فرض الوصايا على الخرطوم مضيفاً أن تصربحات كرتي هي محاولة لإيقاف وصايا أمريكا. فرض الوصايا أما الأستاذ جمال رستم المحلل السياسي فقد قال ل «الإنتباهة» إن الحكومة أرادت أن توضح للولايات المتحدة أن سياستها تجاه السودان لم تتغير رغم أنَّ السودان أبدى تعاوناً معها في كل الملفات التي طلبت تعاونه فيها من الإرهاب ومحاربته وغيره، وأنها لم تنظر للسودان بحياد خاصة فيما يتعلق بالإرهاب والديون. وتعتقد الحكومة أنه على المبعوث الأمريكي أن يعمل على تطبيع العلاقات الثنائية وعليه ألا يتدخل في العلاقات الداخلية بيد أنها أحست بأنه جاء ليفرض وجود أمريكا في ملف السودان الخارجي وفيما يتعلق بعلاقته بجنوب السودان وأن دوره غير واضح وأنهم دومًا يريدون أن يقدم السودان تنازلات فيما يتعلق بأمر الاستفتاء القادم في أكتوبر. لذلك كله رأى كرتي أنه لا بد من التعامل بهذا الأسلوب الحاد من الخطابات الدبلوماسية لتوصيل رسالة لأمريكا مفادها رفض السودان للدور الأمريكي الذي يحاول لعبه عبر مبعوثه الجديد. وأكد جمال أن كرتي استفاد من موقف السودان المنحني للعاصفة الأمريكية وإملاءاتها وأدرك وزير الخارجية أنه رغم كل ما يفعله السودان ويتذلل فإنه مصنف في «محور الشر» لدى أمريكا والغرب. فيما أكد أن الخطاب الجديد فيه تعبير واضح للحكومة في سياستها القادمة تجاه الولاياتالمتحدة الرافضة للتبعية. ولكن يرى جمال أن دونالد المبعوث الأمريكي الجديد لم تكن مهمته دبلوماسية وإنما هو مكلف من قبل الرئيس الأمريكي للتعامل مع قضية معينة وهي فرض وصايته على الخرطوم وجوبا. سياسة مجدية في الوقت نفسه شدد العديد من المراقبين على الخطوة الجديدة التي ابتدرتها الحكومة في تعاملها مع الإدارة الأمريكيَّة لجهة أنهم يرون أن مجرد الاذعان لأمريكا يؤدي إلى سياسات لاحقة لا تحتملها حكومة الخرطوم بعد أن هيأت الولاياتالمتحدة لها الأرضية مسبقًا فيما يتعلق بالشأن الداخلي السوداني، وقال هؤلاء إن المخطط الأمريكي بالشأن السوداني واضح وإن مجريات الأوضاع تبين مدى التورط الأمريكي في شأنها الداخلي لذلك يرون أن السياسة الجديدة قد تنجح معها لما تبديه هي من مواقف متطرفة بشأن الدول الأقل حجمًا كالسودان.