علم استقلال السودان الذي ارتفع في صبيحة الأول من يناير عام 1956م، هو العلم الوحيد في جميع أنحاء العالم الذي ارتفع مكان علمين: العلم البريطاني والعلم المصري. كل البلاد الأخرى التي نالت استقلالها في إفريقيا أو الشرق الأوسط أو أمريكا اللاتينية وحتى العلم الأمريكي، ارتفعت وأنزلت علماً واحداً. ما عدا علم السودان الذي تهاوى من تحته علمان. ولكن أي علم؟ هل هو العلم الحالي بألوانه البيضاء والسوداء والحمراء ومثلثه الأخضر؟ لا وألف لا.. لم يكن هو ذلك العلم الذي نقصده.. بل العلم الذي نقصده هو العلم ذو اللون الأزرق والأصفر والأخضر الذي تشرف السيدان إسماعيل الأزهري لابس بدلة الدمور بصفته رئيساً للوزراء، والسيد المهندس الشاعر الأديب محمد أحمد محجوب زعيم المعارضة برفعه على السارية على القصر الجمهوري، فانهمرت الدموع من عيني أسد مساوي السيد علي الميرغني والسيد الإمام عبد الرحمن محمد أحمد المهدي، وكذلك جموع السودانيين في ذلك اليوم الذي بقي محفوراً في ذاكرة كل الأجيال السابقة والمتلاحقة. وأضم صوتي لما نادى به الأخ الإذاعي المخضرم بهيئة الإذاعة البريطانية الأستاذ أيوب صديق في مقال نشره الأسبوع الماضي بجريدة «الإنتباهة» مناشداً السيد رئيس الجمهورية أن يعيد لنا العلم السابق حتى تستقيم الأمور ونخرج من ذلك التزييف الذي لازمنا منذ اليوم الأول الذي اعتمد فيه تغيير العلم. إن العلم السابق هو علم الأمة، لأن الأمة السودانية اعتمدته بألوانه الثلاثة، واعتمدت قانونه الذي قدمه الأستاذ مبارك زروق وثنَّاه السيد محمد أحمد محجوب في البرلمان، ومثلماً أجيز الاستقلال من داخل البرلمان بالإجماع، كذلك أجازت الأمة السودانية ممثلة في نوابها قانون العلم. أما العلم الحالي فهو علم أحادي لم يصدر به قانون من هيئة تشريعية، بل صدر بقرار من الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري. وقد كتبت مقالاً في هذه الزاوية «غيبونة» بتاريخ 8/4/2013 م أنادي فيه بتصحيح هذا الوضع، وضربت مثالاً بالعلم التركي وقلت فيه: «علم كل دولة له قصة وربما فلسفة بني عليها. فمثلاً العلم التركي الذي ابتدعته الخلافة العثمانية منذ عهد مراد الثاني عام 1448م جاء نتيجة لتلك الحرب الدامية التي خاضتها تركيا العثمانية فيما بات يعرف بحرب كوسوفو، وقد استشهد عدد من الأتراك في تلك المعركة وسالت دماؤهم وكان الهلال في بدايته «ود يومين» فانعكست صورته في الماء المخضب بالدماء ومن هنا جاء تصميم العلم التركي هلال أبيض وأمامه نجمة على خلفية حمراء تمثل دماء الشهداء. وحتى عندما أزال مصطفى كمال أتاتورك حكم العثمانيين وبنى تركيا العلمانية، لم يغير العلم، بل الشيء الوحيد الذي تركه يؤرخ للأتراك العثمانيين في حينه أنه ألغى الآذان واعتمد الكتابة بالحروف اللاتينية وغير هوية البلاد إلى هوية أوروبية وأمر النساء بخلع الحجاب وارتداء الزي الأوربي إلا إنه لم يغير العلم. وظل ذلك العلم يثير حفيظة اليونانيين والأرمن كلما رأوه. ورافق ارتفاع العلم نشيد العلم الذي كتب كلماته الشاعر المغفور له أحمد محمد صالح «نحن جند الله» الذي ربما كان نشيداً للجيش وتم اعتماده نشيداً وطنياً «هذا رمزكم.. يحمل العبء ويحمي أرضكم». وعلى ما أظن أن الذي لحنه هو أحمد مرجان بسلاح الموسيقى. وعندما نقول «يا بني السودان هذا رمزكم»، فإلى ماذا تشير كلمة «هذا»؟ هل تشير إلى هذا العلم الحالي أم إلى العلم السابق؟ لقد تم كل شيء وفقاً للأحكام والأعراف الدولية. ولكن العلم الحالي صدر عن نظام اغتصب الحكم عنوة ولم يجزه برلمان منتخب، ولهذا في نظري هو علم غير قانوني، وإنما علم فرض علينا ولم تُستشر فيه أية هيئة تشريعية منتخبة. وكأن الذين فرضوه أرادوا في فورة تغييراتهم تلك، مسح تاريخ النظام البرلماني الذي وُلد من رحم الأحزاب التي كانت قائمة، وهي التي قضى عليها نظام النميري الذي كان شيوعياً في بدايته وقومياً عربياً في منتصفه وإسلامياً في نهاياته. وكلما رأيت الناس يؤدون التحية للعلم الحالي كلما ساورني شعور أننا نؤدي التحية لعلم مزور ليس له سند قانوني، بل هو كذبة كبرى «انطلت علينا» فصدقناها ولم نناقشها ونناقش أبعادها. ولنا عودة.