لم تعد كرة القدم مجرد نشاط تنافسي أو ودي يمارسه اللاّعبون داخل المستطيل الأخضر.. بل تعدت ذلك بكثير، وذلك بإعلان الفيفا لأهداف أرحب للمنشط مستغلة قي ذلك الشغف والعشق والالتزام من جانب مئات الملايين من البشر الذين يمارسون اللعبة لاعبين وفنيين وإدرايين.. ومليارات من المشاهدين على نطاق العالم.. وهذه طاقة هائلة هدفت الفيفا لتوظيفها في محاور بدأت بشعار اللعب والتنافس النظيف.. ثم رفعت شعارات كرة القدم والتعليم.. كرة القدم والصحة.. كرة القدم والبيئة.. كرة القدم والسلام.. وأخيراً عمّمت هدف نشاط كرة القدم تحت شعار كرة القدم والمجتمع ليغطي النشاط حركة المجتمع في كل محاورها.. وعلى سبيل المثال أصبح الاهتمام بالتعليم الأكاديمي للاعبين أحد شروط ترخيص الأندية.. وأصبحت الحرب على المخدرات والمنشطات والتمييز العنصري أو العرقي أو الديني من أولويات المجتمع الرياضي.. وانطلاقاً من هذه المفاهيم فإن النظرة لأية مباراة تنافسية أو ودية إذا انحصرت في التسعين دقيقة ووقائع ما يدور داخل الملعب خلالها ثم الاهتمام بالنتيجة التي يسجلها تقرير حكم المباراة، نظرة قاصرة بكل المقاييس وتهزم كل الأهداف الجميلة والنبيلة لكرة القدم كحركة مجتمع توحد العالم.. وهي نظرة على أقل تقدير لا تسترعي الانتباه للآية الكريمة: «يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، صدق الله العظيم.. ونلاحظ أن رب العالمين قد خاطب هنا كل الناس، وليس المؤمنين أو المسلمين فحسب. ولهذه القناعة سعدت كثيراً بدعوة مجلس المريخ لشخصي لمشاهدة المباراة الودية بين المريخ وبايرن ميونيخ الألماني بطل أندية العالم في الدوحة.. وأبدأ وأقول إنني لم أكن إطلاقاً من الخائفين من نتيجة المباراة.. وذلك ليس لأنني كنت أتوقع نتيجة مثل التي جاءت بها المباراة «صفر/2».. وإنما كنت مهيئاً للأسوأ باعتبار أن النتيجة في حد ذاتها ليست الهدف الرئيس للمباراة.. فواحدة من مشكلات ثقافتنا في الرياضة أننا نعتبر الهزيمة ضرباً من ضروب الفضيحة.. وهذا ما يتعارض مع أهم عنصر في ما ينبغي أن يتّسم به النشاط الرياضي ، وهو «الروح الرياضي». بعد هذه المقدمة الطويلة أتحدث عن المباراة الودية بين المريخ وبايرن ميونيخ الألماني التي جرت مساء الخميس الماضي وما حققته من أهداف ودروس.. ولعل أول وأهم الدروس هو التعريف بالسودان أولاً وبفريق المريخ ثانياً وبمنشط كرة القدم ثالثاً.. فقد ورد في الإعلام أن مدرب الفريق الألماني لم يسمع بفريق اسمه المريخ.. وأقول إن هذه المعلومة تعتبر أخف عبارة في حقنا.. فكثير من الأروبيين لم يسمعوا بالسودان كدولة مستقلة ذات سيادة.. وكنا عندما نسافر لدول أوروبية نقابل بعض من يعتقدون أن السودان جزءاً من مصر.. أو السودان ولاية في الهند.. ولقد عايشنا هذه الحقائق المرّة والمستفزة لمشاعرنا أكثر من مرة.. بل أن كثيراً منهم يسمع عن السودان ما يروّج له أعداؤنا ، بأنه بلد يأوي الإرهاب وبلد غير آمن.. وغير مستقر.. ولكن نستطيع الآن أن نقول بكل فخر إن جراديولا وفريقه وكل من شاهد أو قرأ عن المباراة في ألمانيا وكل العالم يعلم أن هناك قطراً اسمه السودان يلعب كرة القدم ويمثله في هذه المباراة فريق اسمه المريخ.. خصوصاً أن المباراة قد حظيت بتغطية إعلامية واسعة النطاق قبل وأثناء وبعد المباراة. الدرس الثاني هو تلاحم أبناء الوطن في الخليج بكل قطاعاتهم.. فحول الحدث ذابت انتماءاتهم الرياضية وخلافاتهم السياسية وفوارقهم المجتعية.. وكان الهتاف المدوي الذي هزّ الاستاد «فوق.. فوق.. سوداننا فوق».. لقد كان التشجيع في تلك المباراة متميّزاً ومذهلاً.. بدأ منذ دخول الفريق للملعب وتواصل حتى بعد نهاية المباراة بسبع دقائق.. وشهدنا السعادة في وجوه الجميع.. وتحدث بعض الإخوة للأخ سبدرات بأنهم هلالاب ولكنهم يشهدون بأن المريخ شرّف الوطن وشرّفهم بوصفهم سودانيين.. وفي تقديري الخاص أن الفريق الألماني يكون قد تنبّه للتميز في تشجيع تلك المباراة.. أما أنا شخصياً فقد خرجت من معايشتي للحدث بأن علينا ديناً كبيراً نحو أبنائنا المغتربين في الجوانب الاجتماعية والثقافية التي تربطهم بالوطن وتسعدهم.. وفي رأيي يجب أن نعمل لتكرار مثل هذه المناسبات. الدرس الثالث هو أن التفوق جزء لا يتجزأ من طموح الإنسان وتركيبته الفطرية.. فأي مجتمع أو أسرة أو فرد يحتفي بأي نجاح.. فالتلميذ الذي يأتي ترتيبه الأول في الصف.. أو الأول في المدرسة .. أو الأول على مستوى الشهادة يكون لنجاحه أكثر من معنى له ولأسرته وللمجتمع حوله.. ولولا التنافس في كل المجالات لما شهدت البشرية أي تطور يذكر.. ولذلك فمن يكون الأول على مستوى العالم فهذا تميّز يجعل الالتقاء معه أو التعارف به أو منازلته شرفاً كبيراً ومصدر فخر وإعزاز بالمناسبة.. ولنا أن نتخيل شعور لاعبينا وهم يجتهدون في مجاراة أفضل فريق على مستوى العالم.. شعور أكرم وهو يصد تهديفة لواحد من أفضل المهاجمين.. شعور هيثم وزملائه وهم يتخطون تقدم لاعبي أفضل فريق.. شعور علي جعفر وأمير كمال وزملائهما وهم دفاعاً عن مرماهم يمنعون تقدم أفضل اللاعبين في العالم.. الدرس الرابع هو النقلة النوعية التي يمكن أن تحدث لذهنية اللاعبين الذين شاركوا في المباراة.. فقد أثبتت تجاربنا في السودان أن الكرة السودانية قد استفادت من تجارب الاحتكاك مع فرق تفوقنا إمكانات مادية وفنية بدرجة كبيرة بغض النظر عن نتائج الميدان.. فالكل يذكر في تأريخنا الرياضي النقلات النوعية التي حدثت للكرة السودانية بعد الزيارات التأريخية التي قام بها فريق الهونفيد المجري عندما كان بطل أوروبا، والردستار اليوغوسلافي، وسانتوس أيام الجوهرة السوداء بيليه، وفاسكو دي جاما البرازيليين.. وغيرها.. ولذلك أعتقد أننا على الأقل سنشاهد روحاً جديدة للاعبين وذهنية مختلفة. الدرس الخامس هو ما جاء على لسان السيد/ أحمد بن عبد الله آل محمود نائب رئيس مجلس الوزراء القطري وضيف شرف المباراة بأن إقامة مباراة بين فريقي المريخ السوداني وبايرن ميونيخ الألماني بالدوحة تعتبر رسالة سلام من قطر إلى أهل دارفور والسودان عموماً.. وأكّد ترحيب دولة قطر بمثل هذه اللقاءات التي تقرّب بين الدول والشعوب بغض النظر عن النتائج التي تسجل في الميدان، فاللقاءات ودية ويسودها الروح الرياضي.. واعتبر أن المباراة بشكل مباشر أو غير مباشر التقاء بين أوروبا التي يمثلها بايرن ميونيخ.. والعالم العربي الذي يمثله المريخ.. التهنئة لنادي المريخ على هذه الخطوة الموفقة.. وكل الأمنيات لكرتنا السودانية ولكل أنديتنا تقدم الصفوف عربياً وإفريقياً.. والله من وراء القصد.