تتعدد الأسباب وراء رفع وتعليق مفاوضات أديس أبابا حول المنطقتين جنوب كردفان والنيل الأزرق بين الحكومة وقطاع الشمال بالحركة الشعبية التي انطلقت منذ الثالث عشر من الشهر الجاري، وانتهت أمس بعد أن قدمت الوساطة ورقة لخصت فيها المواقف التفاوضية للطرفين، واقترحت نقاطاً مستنبطة من ورقتي الوفدين. ولا بد في البداية من الإشارة إلى حقيقة موضوعية تكشف عن طبيعة هذه الجولة التفاوضية التي لم تكن أصلاً لتصل إلى اتفاق نهائي، فالوساطة الإفريقية التي تتمثل في الآلية الإفريقية رفيعة المستوى التي يقودها السيد ثابو أمبيكي رئيس جنوب إفريقيا السابق، تعاني من خلل وظيفي في أداء مهامها وفقدانها منهجاً حازماً وحاسماً في قيادة التفاوض، وكان يمكن أن تبذل جهوداً أفضل في تقريب وجهات النظر وتتمسك بتفويضها وتغلق الباب أمام أية محاولة للخروج عن التفويض، وقد استغلت الحركة الشعبية قطاع الشمال تساهل الوساطة وربما ضعفها في طرح ورقة تفاوضية تسببت في نسف المفاوضات رفضت فيها مناقشة قضايا المنطقتين وربطتها بقضايا السودان الكلية، وطالبت بحكومة قومية انتقالية ومؤتمر قومي دستوري. ومن هنا يمكن ربط أسباب تعثر المفاوضات ورفع الجولة وطلب الحركة خمسة عشر يوماً أخرى للتشاور ودراسة المقترحات والأوراق والوثائق ثم العودة مرة أخرى، يمكن ربطها بطبيعة عمل وتكوين الوساطة نفسها التي تبدو عاجزة عن فعل شيء فعال وبناء وسريع يوصل الجميع إلى نتائج نهائية حاسمة. ويمكن إرجاع أسباب رفع التفاوض وتعليق هذه الجلسة إلى الآتي: 1/ دخلت الحركة الشعبية هذه المفاوضات وهي راغبة بشكل جدي في إفشالها، ويعود ذلك لتأثيرات جهات دولية وإقليمية ولتوازنات وحسابات سياسية تخص الحركة الشعبية قطاع الشمال وتحالفاتها مع الجبهة الثورية، ولم تكن جادة على الإطلاق بدليل أنها لم توافق على تفويض الآلية بالحوار فقط حول قضية المنطقتين، وأثارت حججاً واهية كان الغرض منها تعطيل وإعاقة التفاوض ومنع تقدمه، واستخدم وفد الحركة تكتيكاً خادعاً في تضليل الآلية الإفريقية والرأي العام، بينما كانت تمارس نوعاً من التعنت والتصلب في المواقف في ثاني الاجتماعات المباشرة، ومن ثم في اللقاءات الأخرى والبيانات الصادرة عنها. 2/ من أهم أسباب تعثر هذه الجولة، التدخلات والتوجيهات التي كانت تصدر لوفد الحركة من قيادته مالك عقار الموجود في فندق آخر بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا وعبد العزيز الحلو القائد العسكري لجيشها الموجود في مسرح العمليات بجنوب كردفان، فضلاً عن تعليمات مباشرة تصل بين الفينة والأخرى تدعو الوفد للتمسك بمواقفه، وقد كشفت تصريحات وأحاديث رئيس وفد الحركة ياسر عرمان عن عدم رغبتهم في التوصل لاتفاق وربط التفاوض بقضايا السودان الكلية، والبيانات التي يصدرها وفد الحركة ويبثها بسرعة لوسائل الإعلام والمواقع اللاكترونية، كشفت هذه التصريحات عن عدم رغبة من وفد الحركة في خوض غمار التفاوض وجعل الجولة تتهاوى نحو الفشل برفع المطالب التعجيزية غير المقبولة عند الوفد الحكومي، ورفع السقف إلى المدى الأقصى والعلو الشاهق. 3/ لعبت جهات عديدة من خارج دائرة التفاوض مناصرة للحركة الشعبية مثل الخبراء الذين استجلبتهم للقدوم إلى أديس أبابا من السودان وغيره، لعبت دوراً كبيراً في انفضاض الجولة من دون نتائج، حيث عمدت إلى تحريض وفد الحركة ومنعه من التقارب في مقترحاته مع مقترحات الحكومة ومواقفها حتى يصل الجميع لاتفاق، وكان لتبني المبعوث الأمريكي دونالد بوث مواقف الحركة الشعبية والدفاع عنها حتى لدى لقاءاته الرسمية مع بروفيسور غندور الدور الرئيس في تعقد العملية التفاوضية ووصولها إلى طريق مسدود وانفض سامرها.. فبوجود المبعوث الأمريكي وآراء الخبراء التي كانت تقول لمفاوضي الحركة إن السلطة في الخرطوم ستنهار خلال ثلاثة أشهر تحت ضغط الوضع الاقتصادي المأزوم، لم يكن من الممكن إيجاد نقطة تفاهم تصلح لبدء الحوار. 4/ حاولت الحركة قطاع الشمال التمسك بمواقف آيديولوجية تخصها عبر عنها ياسر عرمان رئيس وفدها، لا علاقة لها بقضية المنطقتين، ولا تطلعات المواطنين في جنوب كردفان والنيل الأزرق في الاستقرار والأمن والسلام، ولا بد هنا من القول إن هناك تطابقاً كاملاً بين مطالب الحركة قطاع الشمال ومطالب تحالف المعارضة والطرح السياسي للحزب الشيوعي السوداني، ولا يخفى على أحد دور القيادات الشيوعية التي جاءت للعاصمة الإثيوبية بدعوة من قطاع الشمال، فقد كانت تحلل وتتخذ المواقف التي يحملها عرمان إلى الطاولة. ويبدو مما سبق ذكره أن مستقبل التفاوض بين الحكومة وقطاع الشمال محفوف بمخاطر جمة، ولا سبيل لتجاوزه إلا بالتركيز على الأوضاع في المنطقتين، ومخاطبة قضاياهما بقوة ووضوح، والتفاهم مع التيارات داخل أبناء المنطقتين من عضوية الحركة الشعبية قطاع الشمال، وقد عبرت قيادات كبيرة مثل إسماعيل خميس جلاب ورمضان حسن وبعض أبناء النيل الأزرق عن مواقف يجب أن يُنظر لها بجدية، لأنها ترفض أسلوب عرمان والحلو وعقار في اختطاف قضية المنطقتين.