مهدي صديق «ود العقاب» رجل عادي.. من غمار الناس.. ولد مثلنا.. كآلاف من يولدون.. بالآلاف.. أيام هذا الوجود ونما كآلاف من يكبرون حين يقتاتون «كسرة الفتريتة» وتسكع مثلنا في طرقات الحياة.. ولم تمنحه الحياة «صكاً» أكاديمياً.. فحظه من التعليم كان قليلاً.. لكنه سبق مدارس «الصكوك».. فذوب عقله وعينيه على صفحات الكتب.. ولهث وراء المعرفة.. كل «المعرفة».. ككلب يشم روائح الصيد.. غاص في سراديب المعرفة بحثاً عن الحقيقة.. فعرف أن البارئ لم يخلقنا ليصغرنا في عينيه.. بل ليرانا ننمو ونبني «مملكة المعرفة».. العيكورة قريته والقرى القريبة.. تراه إنسانا عاديا.. والبعض لا يرونه.. لأنهم لا يرون ما بداخله، فالقشور تحجب عنهم ما بالداخل.. لا يرون فيه غير أنه «مزارع» يمشي بين الناس.. ويعيش مع «فرسته» التي وجودها عنده له مدلول.. ففي عالم خيله «يستمد» فلسفة الحياة «لا يرون إحساسه العميق بالآم الإنسانية التي ملأت قلبه.. فيعبر عنها بقفشاته وضحكته.. وسخريته.. ووضوح بيانه.. وإن كان أبو العلاء المعري.. قد ترجم أحاسيسه في كتابه «الصاهل والشاحج» فإن «مهدي صديق».. أفسح المجال لفرسته لتصهل، وفي صهيلها تعبير عن فلسفته.. صوت بديل يعبر عن آخر.. اختار السخرية من واقع الحياة التي يسودها الجهل.. صوت يرفض الفساد والظلم والطغيان والجبروت والاستعلاء.. صوت هادر بالحزن والسخرية.. والمرارة.. صوت معلي للكرامة الإنسانية.. واليقين العقلي.. والحرية الإنسانية.. وعندما يحدثني عن «عالم الخيل» أرى أن عالمه هو الخيل وحدها.. لكنه سرعان ما يحلق بي في عالم الكتاب.. وابن رشد.. والعقاد.. وطه حسين.. تحس وأنت معه.. في مكتبة.. تحوي ملايين الكتب.. فهو يقرأ في هذا الزمان.. الذي ركل الكتاب.. يقرأ كل شيء.. لكنه لا يكتب.. بل يحدث الناس في زمان قلت فيه متعة الاستماع.. فالناس في زماننا هذا لا يسمعون.. والذي لا يسمع بالتأكيد لا يرى.. ويحدثني عن فكرة الجمال.. بأن الفكرة مع فكرة «الحق والخير».. ويذهب بي إلى أن هناك ثلاثة يستحيل إخفاءها وهي: «الكحة» و«الحب» و«الفقر»! استوقفتني مقولته هذه.. وأنا غارق في سر هذا الكون.. وهذا الوجود الذي فضاءاته مفتوحة للتأمل وصنع الأفكار والرؤى.. من غير تحديد.. فالفضاء غير محتكر «لفرد» فالأفكار جهد إنساني لا يحتاج «لصك» مهني يؤطره. فيلسوف القرية مهدي «ود العقاب» يصنع أفكاراً وآراءً بعفوية وتلقائية.. مخترقاً جدران معاهد العلم الخرسانة المسلحة .. باطلاعه الواسع.. والتهامه «لأمات» الكتب.. كون له فلسفة في الحياة.. حاملاً على ظهره الحياة.. مثلما تحمل «كارته» زكائب القصب وجوالات الذرة.. له فلسفة في الزواج.. وفي العمل وفي التربية.. في كل مناحي الحياة.. له رؤية.. ورأي يلقي بأفكاره، ولا يهمه أن يتقبلها الناس أو لا يتقبلونها.. وأشد ما يحزنه جهل وجهالة «المتعلمين».. فكثيراً ما يهرب منهم.. فقد قال لي إن «الجهل بعادي» فلا تجالس المتعلمين الجهلاء.. الذين علاقتهم بالكتاب والمعرفة ضعيفة.. وخلي بينك وبينهم يكون الحد في «الطندبة» فالأخ «مهدي» واحد من فلاسفة وطني.. الذين لا يراهم إلا القليل ولا تقع «بقع» الضوء عليهم.. فحتى وإن حاولت.. فإنهم يهربون منها.. ولسانهم ينشد: ومن والج للمجد من غير بابه ومن قائم يسعى بهمة قاعد ومن مكفر دعوى الزهادة خادعاً