ٌٌُاذا كانت القدرات العسكرية للحركة الشعبية آخر ايام التمرد لم توصلها إلى حسم الحرب لصالحها فتصل إلى المدن الكبرى والقرى من حولها في جنوب السودان، فذاك كان بسبب وجود القوة العسكرية الحكومية التابعة للخرطوم. الآن الجيش الشعبي لم يستطع حماية المدن والقرى التي تسقط في أيدي المتمردين بقيادة مشار واحدة تلو الأخرى. لم يصبح الجيش الشعبي بعد انفصال جنوب السودان بل بعد اتفاقية نيفاشا مثل الجيش السوداني الذي كان يحمي هناك المدن والقرى ومناطق حقول استخراج النفط. وكان بمقدور الجيش الشعبي آخر أيام التمرد قبل وقف اطلاق النار عام 2002م أن يحتل بعض المناطق الاستوائية البعيدة مثل توريت، وهي أول منطقة بدأ فيها التمرد والعدوان على الشماليين عام 1955م وآخر منطقة دخلها التمرد، وكان ذلك بعد التزام الخرطوم بوقف اطلاق النار، فيما لم تلتزم حركة قرنق مما يعني أن احتلالها كان غدراً. الآن جعل الله كيد الجيش الشعبي في نحره، فقد ورث هو القوات المسلحة هناك لكنه أضاع الإرث العسكري العظيم الذي طالما حمى قبائل الجنوب من التمردات على مدى نصف قرن من الزمان. «الاستعمار» في الحقيقة كان «استدماراً»، فهو لم يوحد قبائل الجنوب بلغته المهمة الآن، ولم يسمح بتوحيدهم باللغة العربية التي يجيدونها ويحاولون التواصل بها فيما بينهم اكثر من غيرها. والبريطانيون حبسوا الجنوبيين من اللغة العربية، فلا هم علموهم لغتهم ولا اختاروا لهم من اللغات المحلية لغة رسمية لإقليمهم، ولا تركوهم يتعلمون اللغة العربية. واللغة العربية الآن هي لغة التخاطب في السودان بين قبائل كثيرة جداً غير عربية، مثلاً بين البجا والمحس وبين الدناقلة وقبائل دارفور غير العربية. وهذا يعني أن العدوان الثقافي الذي شنه البريطانيون على أبناء الجنوب جزء من العدوان الشامل عليهم. والفتوحات الاسلامية دائماً ما تترك في المنطقة عناصر التعايش السلمي، فمصر بلا الفتح الاسلامي ما كانت ستكون موحدة هكذا، فاللغة العربية هناك قد وحدت بين الأقباط والنوبيين في المواطنة ومعهم عوائل تركية ويونانية. وإذا كانت نتيجة الاستفتاء حول تقرير مصير الجنوب كاملة تقريباً، فهذا يرجع لنجاح المؤامرة البريطانية.. وملخّص المؤامرة ان يكون الانفصال في العرف السياسي في «الشمال» عيباً كبيراً يخوّن صاحبه.. وان يكون في «الجنوب» مطلباً ضرورياً يستحق التمرد. ثم بعد الانفصال لا يجد ما يوحد القبائل الجنوبية، لم تصنعه بريطانيا طبعاً. أما الحضارة الاسلامية التي تشكل نهاية التاريخ فهي توحد القبائل والعوائل المختلفة بالعقيدة واللغة. والدينكا والنوير في جنوب السودان أبناء عمومة لم يوحدهم شيء غير معاداة الشمال طبعاً باستثناء بعضهما. وفي «الشمال» قبائل سامية وحامية لكن وحدتهم الحضارة الإسلامية. والحركة الشعبية كانت تحارب الحضارة الإسلامية في الشمال وفي بعض المناطق الجنوبية تحت شعار السودان الجديد يعاونها «عرمان» الذي يحلم بسيادة الحضارة الشيوعية. والآن بعض قبائل الجنوب تحارب الحركة الشعبية، لدرجة ان زعيم التمرد مشار يعلن عن تعيين حكام عسكريين لولايات جونقلي والوحدة وأعالي النيل. وهذه حكومة عسكرية موازية لحكومة جوبا التي قيل أنها «ديمقراطية».. » «سلامة الديمقراطية». انها ديمقراطية اللعب على الذقون.. ديمقراطية «الكجر» وهي المهزلة السياسية والمسرحية سيئة الإخراج التي جرَّت شبهة عدم النزاهة على نتيجة الاستفتاء حول تقرير مصير الجنوب. لكن ما يحدث في جنوب السودان يبقى مصدر سعادة للقوى الأجنبية لدول الاستكبار مثل الولاياتالمتحدةالامريكيةوبريطانيا واسرائيل، فهو يعني ان المخزون النفطي الاستراتيجي ستحوّله مرحلة الحرب والحرق والدمار من أيدي الشركات الشرقية إلى الشركات الغربية. وبعد أن فشلت حركات التمرد الصغرى بقيادة بعض القادة الذين كانوا ضمن قيادة الجيش الشعبي بعد ان فشلت في نسف الأمن بالصورة التي تعطل عمل استثمارات شركات النفط الشرقية، كان اللجوء بعد تعديل المؤامرة إلى الانشقاق العظيم في الجيش الشعبي، وقد حدث، وها هي المدن النفطية تسقط من يد سلفا كير.