العبارة التي قالها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عند زيارته للبلاد قبل أيام قليلة وهي «أن مصر تعتبر السودان جزءاً من مصر»، أثارت العديد من التعليقات، لكن هل بالفعل هذه الكلمة جاءت عفواً من باب إبداء المشاعر الطيبة تجاه السودان، وليست لها مرتكزت في الأدب السياسي المصري عبر التاريخ السياسي في مصر؟ للإجابة عن هذا التساؤل أحيلكم لمقال سابق تحدثت فيه عن مفهوم تبعية السودان التاريخية لمصر، حيث ألقيت نظرة عجلى في التاريخ السياسي لمصر منذ القرن التاسع عشر حيث ساد ما يسمى مفهوم الهوية والوحدة في وادي النيل، وهو يرتبط أساساً بمصالح مصر الحيوية في مياه النيل، وقد عبر زعماء سياسيون بشكل واضح عن تبعية السودان لمصر. ويقول الزعيم المعروف سعد زغلول في مذكرة قدمها في التفاوض مع بريطانيا والدول المؤتمرة بباريس «إذا كان المصريون يطالبون بإرجاع السودان اليوم فهم ليسوا مدفوعين بحب التوسع والاستعمار وإنما هم يطالبون باسم الحق واحتفاظاً بكيانهم الوطني فقد كان السودان منذ الأزمنة الغابرة جزءاً متماً لمصر»، ثم هتف في البرلمان المصري قائلاً «إن الأمة المصرية لن تتنازل عن السودان ما حييت وما عاشت». ويقول الزعيم مصطفى كامل في صحيفة اللواء عام 1900 مخاطباً المصريين في خطبة استنفارية قائلاً «معاشر المصريين أعتقدوا أن حقوقكم في السودان ثابتة، وعلموا أبناءكم صغاراً معنى هذه الحقوق المقدسة ليطالبوا بها كباراً أو يحافظوا عليها وأن وقفتكم لاسترجاعها تذكروا معاشر المصريين إن إخوانكم في الوطن والدين الذين أهرقت دماؤهم العزيزة في سبيل استرداد السودان وأن القابض على منابع النيل قابض على أرواحكم». ويقول النقراشي باشا في مجلس الأمن عام 1947 عن حق مصر والسيادة على السودان وقدم وثيقة للمجلس بعنوان«مصر والسيادة على السودان» التي أعدها الدكتور محمد فؤاد شكري «راجع بحث د. أحمد فارس بمجلة الوحدة العربية لعام 1977 ويقول د. نصر الدين المبارك «إن المفاوض المصري كان يتحدث عن سيادة مصر المكتسبة على السودان»، كما أصرت مصر آنذاك أن ينص في دستور عام 1923 على لقب ملك مصر والسودان، وقال الدكتور أحمد سويلم في كتابه عن السودان ومصر ومطامع السياسة البريطانية «يعد السودان جزءاً لا يتجزء من مصر»، ولهذا فقد انعكست هذه الأدبيات على العقل الجمعي الشعبي فقد خرجت أول مظاهرة بعد تكوين أول حكومة مصرية برئاسة سعد زغلول كان أحد شعاراتها «النيل لا يتجزء مصر والسودان لنا»، وفي العام 1977قال زعيم حزب الوفد المصري في ندوة بنقابة المحامين المصريين «إن الموافقة على تقرير مصير السودان كان عملاً خاطئاً»، وقد أثار هذا الحديث غضب العديد من السودانيين هناك خاصة أن الحديث تزامن مع الاحتفال باستقلال السودان. وربما لهذا السبب كانت مصر في بداية الحراك الوطني نحو استقلال السودان في العهد الناصري تعمل على إبقاء السودان فيما يسمى بوحدة وادي النيل، لكن كان الكثير من الصفوة الوطنية يدركون أن مفهوم الوحدة تحت ظل إرث تاريخي متوارث يعبر عن التبعية لا يمكن أن يحفظ للسودان كيانه المستقل وإرادته الحرة، ولهذا سعت مصر بكل السبل آنذاك لوأد شعار السودان للسودانيين ولم توافق على تقرير المصير إلا بعدما أدركت أن ذلك يعبر عن تيار شعبي جارف ليس من الحكمة الوقوف ضده، وأن الأفضل الرضاء بالأمر الواقع ومحاولة إبقاء التأثير المصري عبر آليات سياسية في الداخل، فكان الانفتاح الثقافي على السودان بالبعثات التعليمية وجامعة القاهرة مع الاستمرار في تأييد التيارات الداعية لما يسمى بوحدة وادي النيل ليس من باب التحقق العملي فإن ذلك بات مستحيلاً، لكن من باب إبقاء مبدأ الأبوة المستمرة للجار «الصغير»، وابقاء هذه الجذوة كامنة وإن لم تكن متقدة. أخيراً هل أدركتم أن كلمة الرئيس المصري لم تكن مجرد كلمة عابرة؟