سئم حياة المدينة وهواءها المشبع بمخرجات عوادم السيارات وهي تواصل نثرها على المارة.. يخرج في الصباح من علبة الكبريت ليتوه بين غابات الأسمنت، تقلمت أظافره، وحفت قدماه، يحمل على كتفه كيس عدة النجارة، (المنشار، القدوم، الشاكوش وقليل من حبال السعف).. اشتد به الإنهاك فجلس في ظل واحدة من بنايات غابة الأسمنت، أخرج من جيبه حصيلة العمل، عدها، لم تتعد الجنيهين وها هو النهار قد انتصف، بدأ يتذكر الحالة التي كان عليها العمل فيما مضى والآن قد تغير. حلت سرائر الحديد محل «العناقريب»، والسلك الناعم محل حبال السعف، ما عادت هناك حاجة لمؤهلاته. نظر إلى مصفوفة غابات الأسمنت التي لا يتوقف نموها، ولا يتقاصر تطاولها للأعلى، سأل نفسه في حيرة، بم تتغذى؟! ومن أين؟ وكيف؟ حاول أن يعرف معلومة عن نوع العلف وأماكن حظائره؟ منى نفسه بالتسلل خلسة لمزارعه، يكفيه أن يكون علافاً صغيراً بين جيوش العلافين الذي تمددت أجسامهم وهم يشاركونها تناول وجباتها. رجع لنفسه وتذكر باديته التي تمرد عليها، تأوه في حسرة، ليته يرجع إليها، وهو يتساءل: أتراها ستقبل عذره؟ وكيف حالها الآن؟ جمالها، خضرتها، هواءها المشبع نقاء وطراوة؟ إنسانها ورقة أحاسيسه وطبعه؟ تذكر الزحف، لقد سمع الكثير عن قسوة الزحف الصحراوي الذي ضربها. قام من جلسته وقد عزم على العودة للبادية. يجب أن يراها الآن!! تملكه الشوق إليها، يكفيه ما عاناه بين هذه الغابات الكالحة. ركب «اللوري» وجلس في «كابينة» القيادة السائق، ترك لعينيه حرية التنقل، امتدت المساحات الشاسعة أمامه، رأى ما لم يتوقعه ساقت المتغيرات خطاها على الفيافي، الأمطار التي كانت تنزل بغزارة شحت وقلّ عطاؤها، حل الجفاف وعادت إفساداً وتدميراً، تألم ونزلت كلمات الرثاء تصرخ: بعد الخُضرة والجدلة والشبرية وصوت البيرغن صباح وعشية غابت منها العتمة أم بروقاً حية غطاها المحل وصبحت دوام منسية ٭٭٭ يا حليل الرشاش وكت نسايمو يهبنْ واغنام الفريق الفوق فروعن شبن ماليات ضروعن بالخير دوام ما غبنْ ساترات صاحبن لي ضيفو غنن وتبنْ ٭٭٭ نفحات الدعاش الحلوة قلّ ورودا جافت موطنا وبكت البراري وفودا ضحكات الصغار حين يفوح مردودا تنشرح النفوس والبهجة تروي خدودا ٭٭٭ حزت في نفوسنا العطشة بعد الرية ولفحات العُصار الليدو فوق ملوية يدمر في الفروع قايداه قسوة عصية لا بيعرف هداوة لا شفقة لا حنية وصل باديته الحبيبة، وكان اللقاء بالأهل وجلساتهم الندية، قضى بينهم فترة حاول فيها أن يطبع نفسه على تقبل الواقع، حاول وحاول ولكنه فشل، همس «تباً للمدينة وعيش المدينة» أخذت منه عنصرين: اليقين والقناعة ضاق بالبادية مثلما ضاق بغابات الأسمنت وفضل العودة إليها. تشبع هذه المرة بالإصرار على إيجاد حظائر العلف ودخولها. وصل المدينة وواصل زحفه على شوارعها القاتمة، تعمد أن يقوم بمحاولات للتعرف على حراس الغابات، وجد فرصة في واحد منهم، تكررت لقاءاته به وطاب بينهما الأنس والتآلف، انطلق لسانه يشرح حاله، نظر إليه الحارس مستغرباً، رثى لحاله، قال بعد صمت: «سأحاول مساعدتك إن توافرت فيك ثلاثة مؤهلات»: أعمى وأطرش وأبكم. حاشية: الجدلة: هي شريط الزينة الذي يزم بخطام الناقة حاملة الشبرية. الشبرية: هي الهودج الذي تجلس داخله الحرمة عند الظعينة.