الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً يليق بإنعامه وأفضاله، ويكافئ مزيد ما خصنا به من نعمة الهداية والإسلام والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبد الله سيد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه المجاهدين مصابيح الهدى. وبعد: تطل علينا هذه الأيام العشر الأواخر من رمضان وهي أيام مباركات مصحوبة بنفحات. أخرج الطبراني في الكبير وابن عبد البر وبن أبي الدنيا عن محمد بن مسلمة الأنصاري وأبو هريرة وأنس بن مالك قولهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعله أن يصيبكم نفحة منها، فلا تشقون بعده أبداً»، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان، ما لا يجتهد في غيرها مسلم «1175» عن عائشة، ومن ذلك أنه كان يعتكف فيها ويتحرى ليلة القدر خلالها البخاري «1913» ومسلم «1169» وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره» البخاري «1920» ومسلم «1174» زاد مسلم وجدّ وشد مئزره. وقولها «وشد مئزره» كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة على المعتاد، ومعناه التشمير في العبادات. وقيل هو كناية عن اعتزال النساء وترك الجماع. وقوله «أحيا الليل» أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها. وقد جاء في حديث عائشة الآخر رضي الله عنها: لا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ولا قام ليلة حتى الصباح ولا صام شهراً كاملاً قط غير رمضان «سنن النسائي «1641»، فيحمل قولها «أحيا الليل» على أنه يقوم أغلب الليل. أو يكون المعنى أنه يقوم الليل كله لكن يتخلل ذلك العشاء والسحور وغيرهما فيكون المراد أنه يحيي معظم الليل. وقولها: «وأيقظ أهله» أي: أيقظ أزواجه للقيام، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في سائر السنة، ولكن كان يوقظهم لقيام بعض الليل، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال: «سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن! ماذا أنزل من الخزائن! من يوقظ صواحب الحجرات؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة «البخاري «1074» وفيه كذلك أنه كان عليه السلام يوقظ عائشة رضي الله عنها إذا أراد أن يوتر البخاري «952». لكن إيقاظه صلى الله عليه وسلم لأهله في العشر الأواخر من رمضان كان أبرز منه في سائر السنة. وفعله صلى الله عليه وسلم هذا يدل على اهتمامه بطاعة ربه، ومبادرته الأوقات، واغتنامه الأزمنة الفاضلة. فينبغي على المسلم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الأسوة والقدوة، والجدّ والاجتهاد في عبادة الله، وألا يضيّع ساعات هذه الأيام والليالي، فإن المرء لا يدري لعله لا يدركها مرة أخرى باختطاف هادم اللذات ومفرق الجماعات والموت الذي هو نازل بكل أمرئ إذا جاء أجله، وانتهى عمره، فحينئذ يندم حيث لا ينفع الندم، ومن فضائل هذه العشر وخصائصها ومزاياها أن فيها ليلة القدر اختصاص الاعتكاف فيها بزيادة الفضل على غيرها من أيام السنة، والاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله تعالى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف هذه العشر كما جاء في حديث أبي سعيد السابق أنه اعتكف العشر الأول ثم الوسط، ثم أخبرهم أنه كان يلتمس ليلة القدر، وأنه أريها في العشر الأواخر، وقال: «من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر». وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده متفق عليه ولهما مثله عن ابن عمر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة. أيهما أفضل عشر ذي الحجة أم عشر آخر رمضان؟ سئل أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، أيهما أفضل؟ أجاب: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة. قال ابن القيّم: وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافياً كافياً، فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة، وفيها: يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم التروية. وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإحياء، التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحييها كلّها، وفيها ليلة خير من ألف شهر. فمن أجاب بغير هذا التفصيل، لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة. آداب الاعتكاف: هذه الآداب يجب على من أراد الاعتكاف أن يلتزم بها، وقد وضحها أهل العلم كالآتي: 1/ يرى الأئمة الأربعة وغيرهم رحمهم الله أن المعتكف يدخل قبل غروب الشمس، وأولوا الحديث على أن المراد أنه دخل المعتكف وانقطع وخلا بنفسه بعد صلاة الصبح، لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف، انظر شرح مسلم للنووي 8/69،68، وفتح الباري 4/277 2/ ويسن للمعتكف الاشتغال بالطاعات. 3/ ويحرم عليه الجماع ومقدماته لقوله تعالى: «ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد» سورة البقرة/177 4/ ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد منها. نسأل الله أن يتقبل منا الصيام والقيام، وأن يعيننا فيه على ذكره وشكره وحسن عبادته. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. د. عثمان محمد النظيف محمد من أصل المسألة: نشكر للأخ مساعد الأمين العام لهيئة علماء السودان مشاركته هذه الطيبة من خلال أصل المسألة في نفحات هذا الشهر الفضيل. والأخ د. عثمان عالم وأصولي ومدقق. نسأل الله أن ينفعنا وينفع أمته بعلمه.. وأن يخرج على يديه علماء فطاحل وأصوليين جهابذة ومدققين حذاقاً.