عشت أكثر من ثلاثين سنة مضت مغترباً، بعيداً بجسدي عن وطني، قريباً منه ومعاناتي من معاناة أهلي فيه، وخلال سنوات اغترابي تعاملت ك«محرر سياسي» في واحدة من أكبر الصحف اليومية السعودية، وواحدة عربية لندنية مع أكثر من اثنتي عشرة وكالة أنباء عربية وآسيوية وإفريقية وأمريكية وأوربية، كما تعاملت مع عشرات مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية في شتى أبواب العلوم والمعارف الإنسانية، إضافة إلى الصحف اليومية والمجلات الدورية، وما استطعت اقتناءه من الكتب القديمة والحديثة، وهذه كلها مما جنيته إضافة إلى ثقافتي المتواضعة ومعرفتي بالظروف المالية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية طوال سنوات القهر الاستعماري، وطوال عهود ما بعد الاستقلال التي لم تهدأ فيها الخلافات السياسية والنزاعات الأهلية فازددت قناعة ذاتية بأن جيل آبائنا الصحافيين الراحلين وأذكر منهم: أبا الصحف أحمد يوسف هاشم وإسماعيل العتباني وعلي حامد محمد ومحمود أبو العزائم والدكتور أحمد السيد حمد وعبد الله رجب وزين العابدين حسين شريف وبشير محمد سعيد، ومحجوب عثمان ومحجوب محمد صالح وعبد العزيز حسن ويحيى عبد القادر وحسين عثمان منصور وسيد أحمد نقد الله وعبد الرحمن مختار وأحمد جمال الدين ورحمي محمد سليمان وصالح عرابي وصالح محمود إسماعيل ومحمد مكي وغيرهم ممن لم يحضرني ذكر أسمائهم، هؤلاء الآباء نحتوا الصخر بأظفارهم لينتزعوا لوطنهم ولشعبهم حقوق المواطنة الإنسانية والسياسية، ولينتزعوا من مخالب الأسد «رمز الإمبراطورية البريطانية» الاستقلال والحرية الإنسانية، وأولها الحرية الصحفية، ووضعوا لمن بعدهم من أجيال المهنة الصحفية أسمى وأعرق أعرافها المهنية، وتقاليدها الأخلاقية التي تحكم حرية الممارسة العملية لرسالة الصحافة، وجعلوا من تلك الأعراف والتقاليد دستوراً يحتكم إليه عند نشوب نزاع مع إية سلطة تلجأ إلى مصادرة أي حق من الحقوق الصحفية، وأولها حق التعبير عن الرأي والرأي الآخر. وإذا كان جيلنا من الصحافيين المخضرمين، وهو الجيل الثاني أو «جيل الوسط»، قد عاصر أولئك الآباء وتعلم منهم وأخذ عنهم، فإن من سنن الحياة أن يتواضع جيل الصحافيين الحالي، «وهو الجيل الثالث» ليتواصل معنا، ولعل من التواضع أن يبادر هو بالسعي إلى الأحياء منا للاستفادة من دروس تجربتنا الكلية في العمل الصحفي، وبالتالي الوقوف منا على تجارب جيل الآباء الصحافيين «على الموتى منهم رحمة الله ورضوانه» والاستفادة من دروس تلك التجارب. إن من عناوين عشق الحريات الصحفية لدى كل السودانيين: أن حرية الحصول على رخصة إصدار صحيفة «أكثر من 40 صحيفة» في السودان، ثم حرية الممارسة اليومية التي تكاد تكون مطلقة، قياسًا لمقارنتها بمثيلاتها في أية دولة عربية أو إفريقية أو إسلامية أو أمريكية أو أوروبية، رغم أن وطننا يعاني من نزاعات إثنية وحزبية «83» حزباً لكل منه أجندته الداخلية والخارجية، مع ارتفاع سقف المطالبة بالمزيد من الحريات الصحفية، وهي مطالبة مشروعة لأننا أمة تعشق الحرية التي مهرها أجدادنا بالمهج الغالية والدماء الزكية، ومهر حريتنا الصحفية جيل الآباء الصحافيين وجيل المخضرمين ما يجعل مما يحدث في السودان من حين لآخر من إيقاف جريدة أو اعتقال صحافي أو مصادرة رأي لكاتب هو من الحالات الاستثنائية التي تشذ عن أصل القاعدة المهنية الصحفية في السودان، سواء في ظل حكم مدني ديموقراطي أو عسكري دكتاتوري أو أيديولوجي شمولي، لأنها تخالف أحكام الدستور، كما تخالف أعرافنا وتقاليدنا المهنية، ولذلك سرعان ما يتم التراجع عنها سواء بالرفض الصحفي الجماعي أو بالمراجعة من الجهات الرسمية المختصة أو عن طريق القضاء. الحريات الصحفية عام «2014م» اكتفي بهذا المقال التمهيدي لما بعده بأن أرجو من الزملاء عموماً، ومجلس اتحاد الصحافيين الجديد المنتخب برئاسة النقيب الجديد الأستاذ الصادق أحمد إبراهيم الرزيقي إعادة الاطلاع على تقريرين صدرا عن منظمة «مراسلين بلا حدود»، وعن «أميركان فريدم هاوس»، وكلا التقريرين صدرا هذا العام 2014م عن «التصنيف العالمي للحريات الصحفية»، إذ يكشف عن تراجع بعض البلدان في سلم الترتيب بسبب تأويل سلطاتها بشكل مفرط وفضفاض لمفهوم حماية الأمن القومي على حساب الحق في الإخبار وتلقي المعلومات، نظراً لما ينطوي عليه هذا الاتجاه من خطر متزايد بشكل عام، وتهديداً لحرية الإعلام حتى في ما توصف بأنها «قلب دول الحق والقانون»، ويشمل التصنيف العالمي «180» بلداً هذا العام مقابل «179» في عام 2013م. حيث سُجلت حالات ضد الصحافيين، إضافة إلى محاكمات بتهمة «التشهير» عربياً وأوروبياً وأمريكياًَ، مصحوبة بغرامات مالية، إلى جانب الاستثناءات المتعلقة بالأمن القومي التي تعيق التطبيق السليم لقانون الوصول إلى المعلومات العامة، ناهيك عن تدخل الحكومة في إدارة الترددات بشكل جائر في بعض الأحيان. هذه المقدمة الموجزة أردت أن أبرر بها، ومن منطلق تجربتي في الغربة، الدروس التي أفدت منها حقاً، وعقد مقارنة واقعية بين ما يمارس في السودان من حريات صحفية، وما في غيره من الدول الشقيقة والصديقة والعدوة للسودان، وما ينتظره الصحافيون السودانيون بدون استثناء من المجلس المنتخب الجديد لاتحاد الصحافيين برئاسة الأستاذ الصادق أحمد إبراهيم الرزيقي الذي بات لقبه الجديد «نقيب الصحافيين» يسبق لقبه قبل وبعد انتخابه «رئيس تحرير الإنتباهة». يتبع.