مواصلة في بيان مناقضة قصائد البرعي لمحكم القرآن الكريم أورد أبياتاً ذكرها في القصيدة التي اشتهرت كثيراً وعنوانها: «مِصْرُ المُؤمَّنة» التي نشرت في صفحة 288 من الديوان المسمى رياض الجنة!!، حيث أورد البرعي في القصيدة مصطلحات منها: «القطب» و«الأوتاد» و«الأبدال» و«النقباء» فقال في مصطلح «القطب»: والفقهاء السبعة وأقطابنا الأربعة، وقال: والشيخ الحفني الدرديري قطب الله، وقد ذكر البرعي في ديوانه مصطلح القطب في حوالي عشرين موضعاً، والقطب عند الصوفية هو نفسه «الغوث» باعتبار التجاء الملهوف إليه، فهو في الحال الاعتيادي يسمى قطباً لكن في وقت التجاء الملهوف إليه يسمى غوثاً عند القوم، ولهذين المصطلحين الحضور الكبير في منظوم ومنثور أرباب الطرق الصوفية، وكذلك مصطلح «الغوث» ورد في حوالي خمسة مواضع في الديوان. إن معنى «القطب» عند الصوفية كما فسره ابن عربي الطائي وأحمد التجاني وغيرهما وذكرته معاجم المصطلحات الصوفية أنه عندهم في معتقدهم: «عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان، أعطاه الطلسم الأعم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض الأعم فهو يفيض بروح الحياة على الكون الأعلى والأسفل وهو على قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس»، يقول أحمد التجاني شيخ الطريقة التجانية في «جواهر المعاني»: «إن حقيقة القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق مطلقاً في جميع الوجود جملة وتفصيلاً حيثما كان الرب إلهاً كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من له عليه ألوهية لله تعالى فلا يصل إلى الخلق شيء كائناً ما كان من الحق إلا بحكم القطب ثم قيامه في الوجود بروحانيته في كال ذرة من ذرات الوجود... ثم تصرفه في مراتب الأولياء فلا تكون مرتبة في الوجود للعارفين والأولياء خارجة عن ذوقه فهو المتصرف في جميعها والممد لأربابها..».. ويقول التجاني أيضاً: «فإذا أزال القطب روحانيته عنها انهدم الوجود كله وصار ميتاً».. ونقل عبد الوهاب الشعراني في طبقاته عن أبي الحسن الشاذلي أنه ذكر للقطب خمس عشرة علامة من بينها: «أن يمدد بمدد العصمة والرحمة والخلافة والنيابة ومدد حملة العرش العظيم ويكشف له عن حقيقة الذات وإحاطة الصفات وحكم ما قبل وما بعد وحكم من لا قبل له ولا بعد وعلم الإحاطة بكل علم ومعلوم وما بدا من السر الأول إلى منتهاه»!! قلتُ: هذا معنى «القطب» و«الغوث»عند الصوفية فهل أدرك ذلك من يردد هذه المصطلحات دون معرفة معانيها ومدلولاتها؟! و«معتقد القطب» ينافي محكم كتاب الله تعالى وآياته بدءاً من سورة الفاتحة وحتى سورة الناس، إذ هو يناقض وحدانية الله تعالى وانفراده بتصريف الأمور وبالملك والتدبير، فهو جل وعلا من يغيث المكروب ويشفي المريض وعجباً لمن يدعون خدمة كتاب الله وهم يناقضون بهذه المعتقدات المحكم في كتاب الله!! ألم يقرأوا في القرآن لجوء الأنبياء في لحظات الشدة لله الحي القيوم ؟! فهذا نوح عليه السلام يقول«رب إني مغلوب فانتصر». وهذا إبراهيم يقول: «وإذا مرضت فهو يشفين»، ويونس وهو في بطن الحوت يقول: «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، وموسى يقف أمام البحر فيقول أصحابه: «إنا لمدركون» فيقول: «كلا إن معي ربي سيهدين» ويقول «رب نجني من القوم الظالمين»، وزكريا يستغيث ربه «قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء»، ومحمد عليه وعليهم جميعاً أفضل الصلوات والتسليم يقول لصاحبه أبي بكر وهما في الغار : «لا تحزن إن الله معنا».. هذا هو قصص القرآن وهذا هو التوحيد حق الديّان جل جلاله.. وأما «الأوتاد» فقد قال البرعي في قصيدة «مصر المؤمنة» : أوتاد الأرض في القِبَل الأربعة وقد فُسِّرَ المقصود بمعناها في كتب مصطلحات الصوفية بأن الأوتاد هم: «الرجال الأربعة الذين على منازل الجهات الأربع من العالم أي الشرق والغرب والشمال والجنوب، بهم يحفظ الله تلك الجهات لكونهم محال نظره تعالى»، وهذا يناقض قول الحق تبارك وتعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا».. وأما «الأبدال» و«النقباء» فقد قال البرعي في ذات القصيدة: الأبدال والنقباء العشرة في أربعة، وعند الصوفية أن الأبدال هم أربعين وقيل سبعة وقالوا: إن من الأبدال اثنين يعرفان بالإمامين وهما وزيران للقطب ويذكرون في سبب تسميتهم بالأبدال أن لديهم قوة يذهبون بها إلى المكان الذي يقصدونه وإذا أرادوا أن تحل صورتهم في مكان ليس هم فيه حلّت صورتهم، وقد تقدّم بيان من هو القطب فبمعرفته نعرف المقصود بالإمامين بحسب هذا الزعم!! و«النقباء» قالوا: هم ثلاثمائة ويذكرون في تعريفهم أنهم الذين تحقّقوا بالاسم الباطن فأشرفوا على بواطن الناس فاستخرجوا خفايا الضمائر لانكشاف الستائر لهم عن وجوه السرائر، هكذا دعوى أهل التصوّف في مصطلح «النقباء» فهو يدور حول علم المغيبات من «التنقيب» عمّا لا يظهر وقد تقدم في الحلقة الثانية من هذه السلسلة بيان مناقضة دعوى البرعي لعلم شيوخ التصوف للمغيبات لمحكم القرآن الكريم، في أبيات نقلتها من قصائد له عديدة. ومقدِّمة هذه القصيدة باطل من جهة الشرع تناقض محكم القرآن الكريم وصريح السنة وباطل من جهة الواقع فمِصر ليست مؤمّنة بأهل الله، وإنما الحافظ هو الله «فالله خيرٌ حافظاً» «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ «3» الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»، وأما بطلانها من الواقع فقد أصاب مصراً في القديم والحديث الكثير من البلايا والمحن كغيرها من أرض الله التي تجري عليها سنن الله الكونيّة. وخاتمة القصيدة جاء فيها قول البرعي: صلواتاً تسرح للخير قطب الرحى توصل ضريحه عنه لا تبرح تذكرنا عنده وأحوالنا تشرح بالفوز تأتينا وصدورنا تشرح... وإن شّرْحَ الأحوالِ وذكر الأهوال عند ضريح أي مخلوق كان سواء كان من الأنبياء أو الصحابة أو العلماء أو غيرهم ومخاطبة الميّت لأجل إجابة المدعو هو من الشرك بالله تعالى، ومن دعاء غير الله تعالى الذي وردت فيه من آيات القرآن الكريم ما لا يخفى على من له أدنى علم بكتاب الله تعالى قال تعالى: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ»«وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ» وقال الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» وقال الله تعالى «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» وقال الله تعالى: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ » «إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ». والقصيدة بها الكثير الذي يناقض محكم القرآن الكريم والمقصود ذكر نماذج في مثل هذه المقالات الموجزة، وأرجو أن يكون في هذا البيان المختصر التنبيه لقضية مهمة وهي أن الألفاظ قوالب المعاني، والواجب على من يردد لفظاً أن يدرك معناه ومدلوله، والواجب على المسلم والمسلمة تحري أن يدرك المرء ما يقول، ويكون على دراية مما يتلفظ به. وأتوقف في هذه السلسلة بهذه الحلقة وأستأنف لاحقاً بمشيئة الله تعالى وبهذه الحلقات الخمس تتأكد قضية: مناقضة الكثير من قصائد البرعي لمحكم القرآن الكريم فليست المناقضة في قصيدة أو اثنتين أو ثلاثة. سقط سهواً: في المقال المنشور يوم أمس سقط رقم الصفحة لقصيدة «الشايب» فالذي كتب ص«1» والصواب ص«319» كما سقط كتابة اسم أحمد الطيب البشير في فقرة «انه لما توفيت ودفنت امرأة كانت عنده» فالضمير في عنده والذي جاء عند القبر هو أحمد البشير، وإن كان الأمر واضحاً من السياق ومن موضوع كتاب الأزاهير الذي هو ترجمة له إلا أن الدقة التي أسير عليها في ما أكتب تقتضي هذا التوضيح.