كثيراً ما أحزنتني رؤية المتدربين المغلوبين على أمرهم وهم يحملون ألم الفاقة وأمل التعيين، يمنون أنفسهم بمكان قصيّ في زوايا الصحيفة الكبيرة، يرضون بالقليل فهم يعشقون ولكن في زمن الكوليرا.. كوليرا الحاجة والعوز التي تمنعهم عن الحضور يومياً مثل باقي زملائهم المعينين.. يكتمون أحاسيسهم تجاه صحيفتهم مترجمين ذلك بالعمل المخلص المتواصل.. تجدهم في حماس تتقاصر أمامه قامات الكسل والخمول.. يتسابقون لينالوا شرف الانتماء للصحيفة الغراء، ما بخلوا عليها بجهد ولا مال ولا وقت.. يقطعون المسافات بحثاً عن مادة صحفية تميزهم لينالوا حظهم في التعيين والشهرة والمجد.. هكذا كانوا وما زالوا يسبحون في محيط الأيام بين سعادة وشقاء وصيف وشتاء وراحة وعناء، وما فتئت قلوبهم النقية تنبض بالخير للجميع.. وعيونهم تنظر إلى المستقبل المجهول وكلهم أمل في تحمل المسؤولية. كثيراً ما كنت أستمع إلى بعضهم وهو يتحدَّث عن الدراسة ومتاعبها وأمل العمل في مكان مرموق يكفل لهم ولأسرهم لقمة العيش الكريمة، فالمتدربة فقيرة تعيش الكفاف وترى معاناة والدها في العمل الشاق وفي بعض الأحيان (لا يوجد).. تعيش حالة من الحزن واليأس والبؤس وهي تنظر بعين الشفقة لمن تكوَّنت بفضله شخصيتها تراه عديماً أليماً وهي مقيدة لا تملك غير شهادتها وأحلامها في التعيين.. تتقاذفها الهواجس والظنون بأن لا عمل ولا أمل ولا فائدة من التعليم، فأباها الذي ذاق المرارات من أجل إكمال تعليمها هو الآن يكفر به في صمت.. ويبتسم لها ليخفف عن خيبة أملها وأحيانًا يواسيها بالصبر الذي (لاكته) منذ طفولتها وحتى إكمال تعليمها الجامعي.. فلا شيء غير الصبر جعلها تتحمَّل الفقر ولا شيء غير الصبر جعلها تصارع النفوس الضعيفة حفاظًا على عفتها ولا شيء سوى الصبر جعلها تقتنع بأكل الطعمية في المدرسة (تحت مسمى الفطور).. ولا شيء غير الصبر جعلها تقتنع بأكل (البوش فطوراً) في سنوات الجامعة و(لا شيء) في العشاء أما الغداء (فطبق زحمة المواصلات وإساءة الكمساري) يجعلها مصدومة من الأكل.. فالصدمة عن الأكل (نعمة لا يعرفها غير من تجرَّع مرارتها.. فماذا أقول. فُجعت بخبر وفاة المتدربة اعتدال مرسال بعد صراع مرير مع المرض فانتابني شعور بالأسى والإحباط عندما سمعت عن معاناتها مع المرض ومعاناة أهلها التي بدأت منذ أكثر من ثمانية أشهر ونحن لا نعلم.. فاعتدال نموذج للمتدربة المجتهدة ووفاتها مصدر وجعي الباقي بقاء المتدرب على هامش التعيين.. اللهم ارحم اعتدال واغفر لها واجعلها من أصحاب اليمين.. اللهم أبدلها داراً خيراً من دارها وأهلاً خيراً من أهلها وتقبلها قبولاً حسناً فأنت أهل للرحمة وأهل للمغفرة... آمين.