قلنا في الحلقة الفائتة إن هناك الكثيرين الذين أثاروا عددًا خطيرًا ومهولاً من قضايا الفساد سواءً كان بإبراز المستندات في حالة صراعات أهل البيت أوغيرها أو من خلال تصريحات خطيرة كالتي سبقت الإشارة إليها، ولكن المؤسف جدًا.. هو «صهينة» الحكومة ولواذها بالصمت المخجل ولجوئها إلى المنع بدلاً عن محاسبة ومساءلة الذين حامت حولهم الشبهات، ثم يأتي التبرير القبيح الساذج بالالتفاف على «فقه السترة»، وذلك لتمييع القضايا الساخنة والخطيرة والالتفاف عليها والتغطية على الفساد ..وقلنا إن ثالث الأثافي والمصيبة الكبرى أن ترى «التمساح» يرقى إلى درجة «حوت» عندما تحوم حوله الشبهات وكأنما الأمر ترقية له لأنه صبر على ابتلاءات الاتهام واحتسب.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. وتساءلنا: لماذا لاتحاسب هذه الحكومة المفسدين رغم أن الفساد الآن أصبح ظاهرًا كالعمارات السوامق والأبراج الشاهقة والشركات التي انتشرت كالنبت الشيطاني ولم تك شيئاً مذكورًا قبل «بضعة» أعوام... وهنا أقول حقاً لعرَّاب الإنقاذ السابق الدكتور الترابي أن يتباهى ويفتخر ساخرًا على تلاميذه وهو يزعم أن الحركة الإسلامية كانت معافاة في عهده من الفساد الذي استشرى ويذكرهم بمحاكمة «النحيلة».. وحقاً للذي قال لهم: «نحن في الحركة الإسلامية أبناء فقراء ومساكين ونعرف بعض تماماً ولذلك نستطيع إثبات الفساد من خلال هذه العمارات التي كان أصحابها موظفين صغاراً ولم يكن لديهم شيء قبل الدخول في الحكومة ..!!! 2 وللإجابة عن السؤال الذي ظل يخرج لسانه ويثور بقوة: لماذا تغض حكومة المؤتمر الوطني الطرف عن محاكمة ومساءلة الذين تحوم حولهم تهم الفساد؟؟ للإجابة عن السؤال: لابد من الوقوف على كل الظروف والملابسات والأسباب التي تمنع حكومة المؤتمر الوطني من محاكمة المفسدين وذلك من خلال المعطيات وقرائن الأحوال التي نتطرق إليها بشيء من الموضوعية والمسؤولية... لكن قبل استعراض الدوافع والأسباب هناك نقطة جوهرية لابد من الإشارة إليها وهي إنكار أهل الإنقاذ والمؤتمر الوطني لوجود أي فساد وتحديهم لكل أهل السودان أن يأتوا ببينة واحدة وإثبات ذلك عبر الوثائق والمستندات... وأما أنه لا يوجد فساد فهذا افتراء وكذب سافر ومنطق معتل وسطحي ومغالطة ساذجة، فالذي ينكر ذلك نحيله إلى البنايات الشواهق والاستثمارات الضخمة والشركات لمن كانوا أبناء فقراء أو موظفين كما وردت الإشارة.. ونحيله إلى تقارير المراجع العام المليارية خلال عقدين من الزمان وأظن أن تقارير المراجع العام دي حقتكم ولا سبيل إلى «اللولوة» حولها.. والذي ينكر نحيله أيضاً إلى رشاوى الاستثمار وعمولات المسؤولين التي أٌثيرت داخل قبة البرلمان وحديث أمير الحركة الإسلامية السابق بولاية الخرطوم عن الفساد وتحويل الأرصدة باسماء الزوجات والاستثمارات في دبي وماليزيا ونعتقد بصحة الذي أُثير لسبب واحد لأنه لم يعترض عليه أحد ولم يرد عليه أحد في حينه ولم يُقدِّم الذين أثاروا هذه القضايا إلى محاكمة بتهمة إشانة السمعة وبدا وكأن الأمر مسلم به.. هذا فضلاً عن صيحة قياديي بالمؤتمر الوطني: لابد من الاعتراف بالفساد في أجهزة الدولة. 3 أما تحديهم لكل من يتحدث عن الفساد أن يأتي ببينة واحدة وإثبات ذلك عبر الوثائق والمستندات فهذا والله تعجيز ومنطق أعوج جدًا وتشجيع للمفسدين: أن انهبوا ما شئتم من أموال الدولة ولاتدعوا بيِنة تأخذ بنواصيكم واطمئنوا أيُّها المفسدون فإنَا لانسألكم البتة بل سندافع عنكم طالما أنتم لم تتركوا أي مستندات قانونية تدينكم أو هكذا الرسالة التي يفهمها التماسيح والحيتان الكبيرة والقطط السمان... وهؤلاء نذكرهم بقانون من أين لك هذا الذي يضع كل مسؤول ظهرت عليه بوادر الثراء في قفص الاتهام ودونكم قصة سيدنا عمر مع ابنه عبدالله حينما رأى أن إبله بدينة وإبل العامة تعاني الهزال وافترض أن الناس تركوا لإبله المرعى لكونه ابن أمير المؤمنين فأخذ جزءًا منها لبيت مال المسلمين لهذه الشبهة فقط... لذلك لم استغرب لطول غياب قانون إبراء الذمة الذي حاول الوزير دوسة تفعيله أيام شدة الثورات العربية وكأن هذه الحكومة العجوز أتى بها الشعب السوداني «يادوووبك» مع هبوب ربيع الثورات العربية. 4 أما الأسباب التي تمنع أي حكومة من محاسبة رؤوس الفسادالكبيرة «وليس الموظفين الصغار المختلسين في بنوك أو شركات» يمكن إجمالها جملة من النقاط: أولاً: عندما يصبح الفساد غولاً كبيرًا له أنياب حادة ومخالب وأظافر ويدير أمبراطورية فيها مراكز القوى واللوبيات ومصالح الكبار عبر الشركات والاستثمارات الضخمة ليس بإمكان أحد أن يجروء على محاسبة المنتسبين لهذه الإمبراطورية العظيمة، هذا بوجه عام وعلى ذلك فقس ..!!! ثانياً: حديث العميد عبد الرحمن فرح عن أن الإنقاذ لا تسطيع محاسبة الفساد لكونه جزءاً من حماية النظام، حديث لايمكن أن نسقطه من قائمة هذه الأسباب. ثالثاً: هناك لجنة «سياسية» داخل المؤتمر الوطني لمحاسبة المفسدين لا تعلن نتائج تحرياتها للرأي العام.. وهذه اللجنة غارقة إلى أذنيها في الإمعان بالعمل بفقه «السترة» هي أغلب الظن أنها سياسية وليست قانونية أي أنها تراعي بعض الجوانب السياسية...فمن يضمن نزاهة هذه اللجنة وقوة نفوذها، وهل تستطيع محاسبة وزير نافذ؟؟. رابعاً: طبيعة شمولية النظام السياسي القائم واحتكار السلطة والمناصب لفئة «مترابطة» من الناس لفترات طويلة يجعل من العسير جدًا محاسبة المفسد في ظل الحاجة الماسة للتستر والالتفاف حول فقه السترة، ولأن طبيعة الأنظمة الشمولية تسمح بتفريخ الفساد وإفلات المفسدين من المحاسبة. خامساً: شعور أهل النظام وثقاته بأن الحديث عن الفساد محاولة لإيجاد مبررات لإزاحتهم والنظر إلى القضية من بعض الزوايا على أنها استهداف سياسي خاصة وأن بعض جهابذة الفساد يعزفون على وتر تخويف النظام بهذا الاستهداف «المزعوم».. سادساً: الإمعان في التسويات المالية تحت التربيزة في حال وجود فساد بيِّن وهذا يأتي أيضاً في إطار فقه«السترة».. سابعاً: وجود قانون التحلل من المال الحرام والمشبوه وفي هذه الحالة يؤخذ المال المنهوب من الدولة من «الحرامي» دون محاكمة يعني يؤخذ منه المال المنهوب الذي يعترف به فقط ويقال له جزاك الله خيراً يا شيخنا.