كتب كثير من المؤرخين وطنيين وأجانب عن تاريخ الخرطوم، وهنا أورد لكم شذرات من كتاباتهم وبالذات المؤرخ سليمان كشة في كتابه «تأسيس مدينة الخرطوم».. بعد ترك مدني بوصفها عاصمة للبلاد في 1834م اختار الأتراك الخرطوم، وسار الأمر بها من حاكم إلى حاكم حتى جاء صمويل بيكر عام 1862م، حيث كانت تجارة الرقيق وجلود النمور والعاج هي أبرز الأنشطة الاقتصادية.. وكانت يد الأتراك مطلوقة في المدينة من الحاكم موسى باشا معتمد الخرطوم وحتى أصغر موظف تركي، حيث يأخذون الضريبة عن كل شيء، أنعام، محاصيل، عمل يدوي، وكانت حامية الخرطوم مكونة من «15000» جندي جلهم من الأتراك ويحملون الكرابيج والنبابيت، فإن خالفهم سوداني في دفع ضريبة أو رشوة ضربوه من غير رحمة، إذ ليست هنالك مساءلة إطلاقاً. أما طرقات المدينة فقد كانت ضيقة ومتعرجة، وقذرة تتناثر فيها جثث الحيوانات النافقة وتلال القمامة، كما تفشت الرشوة بصورة وبائية للحد الذي يترجى السوداني التركي بأن يسمح له بصيد السمك من النيل، إما بالدفع المقدم أو إعطائه بعض السمك من بحر الله الواسع دا!! وكان الطقس شديد الحرارة، وعندما تهب العواصف الرملية يتحول النهار إلى ليل حندس «حندس دي كيف؟» حتى لا ترى أمامك، وتسقط نتيجة ذلك الكثير من القطاطي وبيوت البروش والقش.. وتلافياً لهذه الويلات اقترح بيكر على الأهالي نظام التشجير، فوافقوا ثم أحجموا خوفاً من أن ياخذ الأتراك ضرائب عن الشجر أو يُضرب أحدهم لأن شجرته عطشانة.. شفت الوجع دا! أما سكان الخرطوم الذين كان تعدادهم حوالى 30000 نسمة، فقد كانت بينهم جاليات من الشوام والأقباط، وكثير من إناث الحبش اللائي كن يحيين ليالي الخرطوم بالدفوف الصاخبة والرقص الذي يهز منابت الوقار في الناس، وهن من اللائي ينطبق عليهن قول الشاعر: لطيفات أبدان دقاق خصورها ٭٭ وثيرات ما التفت عليه المآزر حاول أخي القارئ أن تعقد مقارنة بين الخرطوم اليوم والخرطوم قبل 150 سنة، واستنتج الفرق الذي حدث سلباً أو إيجابا !!! وهنا أود أن أركز على نقطة واحدة فقط «سيبك من الباقي» وهي مسألة الحرارة الشديدة والزوابع الترابية التي تجتاح الخرطوم من أبريل وحتى سبتمبر، حيث يكفهر الجو وتضيق معه أخلاق العباد وتكتظ المستشفيات بأصحاب الربو والحساسيات.. ما المانع من تنفيذ مقترح السيد بيكر بأن تسن ولاية الخرطوم قانوناً يلزم كل بيت بأن يزرع شجرة أمام منزله على أن تخفض تعريفة المياه إلى 30% حتى يستمتع الناس بطقس رفيع بدلاً من هذه البهدلة؟ ولا يمكن يا جماعة أن يكون طقس الخرطوم هو هو منذ 150 سنة!!! طبعا حتقول لي «هو الطقس براهو؟؟».. الناس في بلدي مشغولون بمكافحة الايدز وختان الإناث وتسلل الأجانب والجريمة المنظمة وكافة أشكال التمييز ضد المرأة والجراد الصحراوي من فئة ساري الليل، لماذا لا تكافحوا التعرية والعواصف الترابية التي تلوي أثواب العنيف المفتل؟ حكمة حلوة: سُئل رجل عن خالد بن صفوان، فقال: ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية!!