ليس من السهولة أن ندفع شخصاً أو جماعة نحو عمل معين أو اتخاذ موقف حاسم، إن لم يبذل الجهد معه لتكوين عقيدة دافعة وحركة تلقائية، ذلك لأنَّ الاندفاع دون روية وتثبت، كثيراً ما يحدث بناءً على تحريض واستغلال لحالة من كان ضحية للتحريض بفعل جهلٍ يعانيه، أو معلومات مفبركة وجدت طريقها لتنسج لها شبكة عنكوتية بأدمغة تفتقر إلى الوعي فتصبح مصيدة للخداع. والتعبئة بالفكر وقوة المبادئ، هي التي تعوِّل عليها الجماعات الجادة، والحركات الإصلاحية، باعتبار أنها تستعين بما يحرك الدواخل موقظاً للعزيمة إذا فترت، والإيمان إن أصابه الضعف، والمهمة إن لحق بها الذبول، وهى التعبئة التى لا تقتصر على إهاجة المشاعر والتوقف عند نتيجة الحماس المفضية إلى الثورة التى لا تتجاوز ظاهرة هياج الإبل والثيران. وإذكر أننا عندما رفعنا شعارات العودة إلى الجذور وتحكيم الدين في حياتنا، واتبعنا ذلك بمواقف عملية وسلوك للقيادات قبل الأتباع، حدثت التعبئة فلم يجبر أحدٌ على حمل السلاح، أو يدفع شابٌ لخوض غمار المعارك، لكنهم جميعاً هبوا بشكل تلقائي وبدافع عقدي، إلى درجة أن قوافل المجاهدين، كانت كالسيل المنهمر والبحر الهادر، ويومها لم نكن في حاجة إلى جندي يدافع عن حياتنا بنيل أجر مقابل الذي نهض من أجله، لكنه هكذا تطوع، وهكذا بذل نفسه ووهب دمه نتيجة لما آمن به من واجب، بغرض كسب الدنيا برعاية الدين، ونيل الآخرة ابتغاءً للآجلة التي تبقى مكاسب الحياة أمامها لا تساوي شيئاً ولو كانت تساوي، لما تمتع الكافر بها بقدر جرعة ماء. ولو أننا، أردنا، تحرك الأمة، نحو المقاصد العليا والأهداف النبيلة بالمصداقية والطرح الواقعي، فإننا لسنا بحاجة إلى أنغام للطرب أو جوقة للموسيقى، ذلك لأن الذين تتحرك مشاعرهم فقط عندما يداعب المتخصصون أوتار الآلات الموسيقية، هم أولئك الذين يرقصون على وساوس الشيطان عندما يوحي لهم زخرف القول غروراً. أما الذين يعقدون العزم على أمرٍٍ خطير، ويقررون خوض معركة يستهدفون من خوضها الانتصار، لا يحتاجون إلى من يدغدغ مشاعرهم بألفاظ معسولة، أو عبارات تحريضية، ذلك لأن التحريض على القتال، لا ينتج مفاعيله بنوعية المفردات، لكنه يكون كذلك عندما يعتمد على المغازي والمعاني والأصول التي من شأنها أن تعمرِّ الإيمان. وقديماً كانت الجماهير تهتف بحياة الأشخاص، ظناً منها أن بين بني البشر من هم أصحاب حق في المنح والمنع، غير أن مثل هذا الفهم الخاطئ قد ذهبت به علوم الحياة وتطورات الزمان. وتذكرون كيف أن الناس، حتى في مجال المصالح المادية والمنافع الحياتية، هم اليوم لا يتحلقون حول شخص الإ إذا ضمنوا مصلحة تصب لصالحهم جراء تكالبهم حوله، فإذا انتفت عنه مثل تلك العناصر، تفرقوا عنه أو افرنقعوا، وتركوه وحيداً في منزله لا يزوره الإ الأقارب وذو الأرحام. ولقد حدثنى وزيرٌ بأنه أصبح مثل راعي غنم إبليس يجلس أمام المنزل، بعد أن أُعفي من منصبه، والكثيرون ممن كانوا يطرقون عليه الباب، استكثروا عليه حتى كلمات التحية والسلام. وبناءً على التجارب الماثلة وهي أكثر من واقعية، علينا ألا نعبئ من نريد استقطابه في صفنا بعرض زائل، أو منفعة مؤقتة، وأن نستهدف ربط النَّاس بنا بما نحمله من مُثُل، ونتمتع به من قيم، لأنها هي التي تضمن لنا تحرك الأفئدة وضخ الدماء الحارة من مصدرها الأصيل لتتدفق في أوردة وشرايين القلوب، وسبحان الله الذي يتولى تقليبها كيف يشاء.