نعم أقول إن هذه ليست المأساة الأولى التي حدثت في مستشفى بحري، فقد حدثت مأساة لطبيب كان يعمل مديراً لمستشفى البرقيق. أتاني هذا الطبيب صباحاً باكراً في الصحيفة التي كنت أعمل بها سابقاً والحزن يغمر عينيه وصوته متهدّج ينم عن فجيعة فسألته مواسياً ماذا بك فسرد عليّ قصته في صعوبة قائلاً: لقد أتينا في إجازة إلى الخرطوم متطلعين إلى رؤية مولودنا الأول أنا وزوجتي وهي طبيبة أيضاً فواصل سرد السيناريو المحزن بقوله إنه حجز لزوجته في الجناح الخاص بمستشفى بحري وعند ساعة الولادة كان حاضراً لها بحكم مهنته وعندما خرجت مولودتهما للحياة كان صوتها خافتاً ومن هنا بدأت المأساة حيث كانت حالتها تتطلب عملية شفط إلا أنه لم يكن يوجد جهاز شفط ولم يكن يوجد أوكسجين كذلك وعندها قال إنه حمل المولودة بين يديه وأخذ يجري بها وهو حاف من قسم لآخر لعله يجد ما ينقذ فلذة كبده ولكن دون جدوى ولما وصل إلى قسم الأطفال كانت قد فارقت الحياة قبل أن تراها. ومن جانبي قمت بنشر هذه المأساة تحت عنوان «مأساة في مستشفى حكومي بالعاصمة» فلمست تعاطفاً غير عادي على ما حدث ومن يومها أخذ القراء يوافونني بما حدث لهم أو لأقربائهم من مأسٍ مماثلة فظللت أنشرها لمدة خمسة عشر يوماً متصلة. فات عليّ أن أشير أن مدير مكتب وكيل وزارة الصحة اتصل بي مؤكداً أنهم سيحققون في الحادث واتصل بي أيضاً الأمين العام السابق للمجلس الطبي لنفس الغرض. وفي تلك الأيام اتصل بي أحد الاختصاصيين بمستشفى بحري مستنكراً ما حدث قائلاً لماذا لا تحدث مأساة كهذه ومدير المستشفى مريض ويسافر بين كل فترة وأخرى للعلاج في الخارج، هذا بخلاف أنه عميد لإحدى كليات الطب. وفي تلك الأيام شكلت رئاسة الجمهورية لجنة بإشراف الأستاذ كمال عبد اللطيف وكان وقتها وزير دولة بوزارة رئاسة مجلس الوزراء بغرض القيام بزيارات للمستشفيات الحكومية للوقوف على أوضاعها فخرجت بنتائج لا تسُر. ومن يومها اختفى أي أثر لهذه اللجنة، وفي إحدى المرات التقيت الأستاذ كمال عبد اللطيف وسألته عن أخبار اللجنة، فقال لي: اسأل الموظفة «فلانة» ولكنني لم أشأ أن أسأل الموظفة «فلانة» لأنني كنت أريد أن أعرف ما حدث للجنة من المسؤول عنها والمكلف بمتابعة نشاطها ولكنه لم يفعل إلا أنني والحق يقال والأمانة تقتضي أن أثمن عالياً جهود هذا الوزير وحدبه على المصلحة فما أدّاه من عمل وإنجازات بهذه الوزارة مشهود له ولا ينكره إلا مكابر. أقول في الختام تشاء الصدف أن يأتي للصحيفة وكيل وزارة الصحة السابق وهو الآخر محل الإشادة والتقدير فأثرت معه موضوع مأساة بحري فذكر أنهم حققوا في الحادث وسألني إن كنت قد تلقيت نتيجة التحقيق فأجبته بالنفي فوجّه أحد أركان وزارته بأن يحضره لي إلا أنه لم يفعل «لعل المانع خير». هامش: قال الشاعر: كل من لاقيت يشكو دهره