المتأمل في تاريخ القوات المسلحة السودانية منذ أقدم العصور ، لا بد من أن يلاحظ المراحل المتعددة التي مرت بها على فترات مختلفة وقد حافظت على كيانها القومي خلال كل الحقب من تاريخها منذ عهد الممالك ، حيث كانت تعتمد الدولة في هذه الفترة على القوة العسكرية لأنها ضرورية لإنشاء الممالك وضمان استمرارها وبقاءها وتوسعها ، وكان نظام تكوين القوات نظام تطوعي ، يجتمع الأفراد المتطوعين من القبائل المختلفة عندما تدعو الحاجة لذلك ، وكان الحكام يقومون بإستدعاء جميع الرجال في المملكة للإنضمام إلى الجيش بمجرد تعرض المملكة لحظر خارجي أو تنوي القيام بغزو خارجي . بعد أن جاءت الثورة المهدية في العام 1882م والتي استطاعت بدورها تحرير السودان وأزالت دولة الحكم التركي من السودان ، وخلقت دولة مستقلة ذات سيادة كاملة ، وذلك بعد حصار الخرطوم وقتل غوردون في يناير 1885م ، لم تستمر الدولة المهدية ، بل سقطت مرة أخرى تحت راية الحكم الثنائي المصري الإنجليزي ، وكان أهم عوامل سقوطها ضعف التسليح الحربي في مقابل الغزو الأجنبي صاحب العدة والعتاد الحديث والمتطور ، وبعد نهاية حكم الخليفة عبد الله تم الإتفاق بين الحكومة المصرية والبريطانية على إدارة السودان حسب اتفاقية ( الحكم الثنائي ) فتم تنظيم الجيش في السودان تحت ظل إدارة العناصر الثلاثة : إنجليزية ، مصرية ، سودانية ، وكان على رأسها سردار الجيش ( كاتم أسرار الحربية ) ومقرها سراي الحاكم العام ، وكان مكتب رئاسة الجيش العام بالخرطوم وهو مسئول عن إدارة وتدريب الجيش ، ولتكوين ( قوة دفاع السودان ) وهذا هو إسم الجيش السوداني في ذلك الزمان - أسباب إستراتيجية وسياسية أهمها الآتي : * كانت بريطانيا قائدة العالم ، وكان اهتمامها مُنصب في افريقيا بعينها نسبة لموقعها المتوسط للعالم ، وكانت الأطماع البريطانية في السودان إستراتيجية وسياسية ، ففي عام 1877م نظمت مجموعات فيها شركة جنوب افريقيا التجارية ، والتي كان هدفها ربط المنطقة من رأس الرجاء الصالح إلى القاهرة ، وبهذا ترتبط الحدود البريطانية مع جنوب افريقيا بموقعها الجديد في منتصف القارة ومصر والسودان وبالتالي الهند . * في عهد الطيران أصبح البحر الأبيض المتوسط عبارة عن معبر بحري وبالتالي أصبح قريبا من مسرح العمليات للقوة العظمى ، وبالتالي أصبح الخط المائي لدى الكومنويلث البريطاني والذي انتقل من قناة السويس إلى الجنوب عبر السودان مما جعل موقع السودان مُرتَكزاً دفاعياً عالمياً لما أصبح الحزام الوسط لإفريقيا مبتدئاً من ساحل الذهب وغانا ونيجيريا والسودان إلى كينيا وتنجانيقا . * أن المصريون قد ألحوا على البريطانيين لإخلاء قناة السويس واتجهت أنظار البريطانيين إلى السودان وتأكد المصريون من ذلك بزيارة منتوقمري للسودان وإرسال أسراب طائرات حربية بريطانية ووحدات إضافية أخرى . * أن إحتلال السودان موضوع مساومات في السياسة الإستراتيجية فإذا تحكّموا في منابع مياه النيل فيصبح المصريون تحت رحمتهم . * وجود قوة بريطانية في السودان تمكن لبريطانيا مراقبة مصالحها العامة في مستعمراتها في الشرق ووسط إفريقيا في حالة تدخل أي قوات مُعادية . * كما استخدمت فرنسا السنغاليين كمحاربين شرسين بإمكان إستخدام البريطانيين للسودانيين في صالح بريطانيا . كانت تلك هي الأسباب الإستراتيجية ، والآن نستعرض الأسباب التعبوية : * الحفاظ على مبدأ التوازن ، والذي تتبناه بريطانيا وهو الأسلوب الأمثل للحفاظ على إستغلال السودان وذلك بإضافة وحدات تكون في مقدرتها الدفاع عن البلد ، ولمنع بناء أي قوات تصبح ذات منعة ما يؤثر على الإستقرار في البلد الواحد . * الحفاظ على الأمن الداخلي في الحدود الإقليمية لكل محافظة يجعله جيشا إقليميا غير نظامي وجنوده من ذات الأقليم . * صيانة هيئة الحكومة ورد العدوان الخارجي أو على حدود السودان ، وهي مسئولية دولتي الحكم الثنائي بموجب إتفاقية 1899م . إذا قوة دفاع السودان أنشأها البريطانيون لخدمة مصالحهم وتواجدهم ورعاية امبراطوريتهم في المنطقة ، في المقال التالي إنشاء الله نستعرض كيف أصبح الجيش السوداني ذا خبرة تراكمية ، وقوة حقيقية . هنادي محمد عبد المجيد [email protected]