كنت في رمضان الفائت مدعوا إلى حفل إفطار رمضاني ضم عددا من الإعلاميين،.. وكعادة الإعلاميين كان لابد من كلام يسبب عسر الهضم والحموضة، فلسبب لا أعلمه يحسب الإعلاميون أنهم مكلفون بإعادة صياغة الدنيا وترتيب الحياة القادمة.. وجلست اصطنع الاستماع بينما أنا سارح في عالم آخر، وفجأة التقطت أذني طرفا من كلام أحدهم عن روجر كورنبيرغ الامريكي الذي فاز بجائزة نوبل للكيمياء قبل سنوات، مع الإشارة الي ان والده فاز بجائزة نوبل للطب قبل أكثر من نصف قرن، ثم أضاف ذلك ال«أحدهم» «مما يؤكد أهمية غرس روح البحث العلمي لدي أطفالنا حتى يأتي جيل يورث العلم ويتوارثه».. فانتفضت جيناتي السودانية التي تجعلني أنسى ما يسمى بالبروتوكول والإتيكيت وصحت فيه: كيف نورث عيالنا روح البحث العلمي او حتى حب العلم ونحن أجهل الناس في كل شيء؟ ولكن صاحبنا تجاهل ملاحظتي وواصل مواعظه عن أهمية نشر الوعي والمعرفة مشيدا مرة أخرى بكورنبيرغ بتاع الطب وابنه بتاع الكيمياء.. هنا تقدمت نحو المايكروفون وانتزعت المبادرة من صاحبي وقلت: يا جماعة أنا أعتقد أنني استحق جائزة نوبل في أي شيء وكل شيء، أكثر من روجر كورنبيرغ واللي خلفوه.. بدون فخر لم يكن أبي وأمي يحملان حتى شهادة من روضة أطفال، وليس بين أجدادي من ناحيتي الأب والأم من كان يحمل شهادة إكمال الصف الأول الابتدائي، والتي كان حاملها حتى قبل سبعين سنة لا يقبل بأقل من منصب وزير.. يعني أنا من عائلة عصامية في الأمية، توارثت الجهل أبا عن جد جد الجد! ومع هذا نلت الشهادة الجامعية (عند تخرجي في الجامعة زارنا صديق مهنئا وقال لأمي: يا سلام، جعفر صار عنده بكالوريوس،.. فكادت ان تصاب بنوبة قلبية لأنها حسبت البكالوريوس مرضا عقليا، ولكنها تماسكت واتهمت الصديق بأنه حاسد وغيران ولهذا يتهم ولدها الذي نال الشهادة الجامعية بأنه مصاب بالبكالوريوس).. لا تحسبوا نيلي الشهادة الجامعية انجازا سهلا... أن تكون واحدا من بين 800 طالب فقط ينالون فرصة التعليم الجامعي سنويا (في ذلك الزمان) في بلد قارة كالسودان، فمن الإنصاف ان تكون هناك جائزة نوبل (ولو موبايل) تليق بإنجازك! أن تكمل سنوات المرحلة الابتدائية الأربع، وكل طعامك (وجبة الإفطار) حفنة من التمر، ثم تخوض تصفيات أولمبية لتفوز بمقعد في المدرسة المتوسطة وتغادر بيت أهلك وعمرك 12 سنة لتعيش في السكن الملحق بالمدرسة ويكون ذلك السكن عرضة لغزو الضباع ليلا فلا نستطيع التوجه الي دورات المياه فيضطر بعضنا الي تفريغ المثانات في السرير، ثم نجتاز مطحنة أخرى لننتقل الى مدرسة ثانوية تبعد أكثر من ألف كيلو متر عن بيوتنا مقيمين فيها ثم ندخل الجامعة ونتخرج فيها.. هذه تحتاج الى أوسكار وليس فقط جائزة نوبل!. لا... وصرت استخدم الكومبيوتر والهاتف الموبايل أنا الذي لم أر الهاتف العادي بالعين المجردة إلا وعمري نحو 18 سنة، ولدي تلفزيون ملون بريموت كونترول! وتعلمت أكل الإسباغيتي بالشوكة، وصرت أشرب الكولا دون أن ينحشر لساني في الزجاجة..هذا هو يا جماعة الانجاز الحقيقي الجدير بالإشادة والتقدير.. ليس إنجازا ان تكون مليونيرا لأن والدك مليونير، او أن تتفوق في دراسة الطب لأن والدك يحمل درجة الدكتوراه في الكيمياء أو الأحياء.. الإنجاز هو أن تكون أول واحد في عائلتك يدخل الجامعة ويتركها غير مطرود بل مزود بشهادة ذات اسم رنان (بكالوريوس).. الإنجاز هو ان قرويا كان يرعى غنيمات أهله صار يقود السيارة ويقود جوجل غول الانترنت ويركب الطيارة.. ومعظمكم مثلي، نشأ في بيئة أمية وريفية أو بدوية وأنجزتم الكثير وعليكم ان تشعروا بالفخر (ولكن بدون غرور).. وداهية تأخد نوبل وجائزته. جعفر عباس [email protected]