رأي ! صناعة الانفصال(2) د. حيدر إبراهيم علي يستطيع المتابع للتطور الفكري لجون قرنق وبالتالي للحركة الشعبية ،أن يلاحظ صراعا شرسا بين العناصر الانفصالية والوحدوية.وهذا وضع طبيعي،لأن (الانيانيا)كان لها وجود قوي بين المؤسسين للحركة الشعبية.ورغم ذلك،جاء مانيفستو تأسيس الحركة ملتزما بوحدة السودان وبشروط جديدة،أهمها بناء السودان الجديد. وكانت انطلاقة الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان،احياءا لقيم الكفاح المسلح في الحياة السياسية.وفي نفس الوقت حددت الاعداء الحقيقيين للشعب،مبتعدة عن تصنيف\"الجلابة\" والعرب والشماليين أي ببساطة تجاوزت عن الفواصل ولم تفسر تخلف واضطهاد الجنوبيين بسبب اصولهم العرقية أو لونهم أو ثقافتهم أو تاريخهم العبودي.بل اتجه مانيفستو الحركة الشعبية مباشرة الي تحليل العلاقات الاجتماعية-الاقتصادية والتاريخية أو بالأصح العلاقات الطبقية.ورفعت الحركة الشعبية شعار الاشتراكية في وقت بدأت فيه الاشتراكية تفقد بريقها وتعيش زمن محاقها.لذلك،جذبت الحركة اليساريين مبدين الاعجاب والارتياح،وتقدم قليلون للانضمام للحركة،واكتفت الاكثرية منهم بالتشجيع والمباركة من بعيد.ولم تكتف الحركة الشعبية بتبني الاشتراكية بل ربطت ذلك بالكفاح المسلح.وهو شعار رومانسي ثوري تمناه الكثيرون من اليساريين دون قدرة علي فرضه في البرامج أو اعلانه.وكانت القيادة الثورية هي الاستثناء الوحيد،ولكن لم يتجاوز حدود مرض الطفولي اليساري.والشاهد هو أن الحركة الشعبية في عام1983 جاءت فداءا للكثيرين من المحبطين في صفوف اليسار،ولكن الأهم هو الربط بين الاشتراكية والصراع الطبقي ووحدة السودان.ففي المادة الأولي من المانيفستو،والخاصة بجذور الصراع التاريخية للمسألة الجنوبية،نقرأ:-\" إن ما يسمي بمشكلة جنوب السودان هي في الواقع مشكلة السودان عموما .إنها مشكلة المناطق المتخلفة في كل انحاء القطر. زادها تفاقما في الجنوب الممارسات التعسفية والانظمة الشللية التي لا تعبر إلا عن الاقلية التي تعاقبت علي دست الحكم في الخرطوم.وفي الواقع فإن جذور المشكلة تكمن في انتشار الرأسمالية والنظم الاستعمارية في اواخر القرن الماضي.\" وأرجع المانيفستو الفوارق والنزاعات الاثنية الي السياسات الاستعمارية لاضعاف الشعوب من خلال تأجيج النزاعات وسياسات:فرّق تسد.حيث يقول:-\"وقد كان تعميق الفوارق القومية والثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية بين الشمال والجنوبفي السودان،ابان الاستعمار جزءا من خطة مرسومة\". كان موقف الحركة الشعبية وحدويا يهدف لخلق سودان جديد،وذلك لسبب بسيط،وهو صحة تحليل قائم علي الواقع وليس علي الايديولوجيات.ومع تصاعد الاتجاه الانفصالي داخل الحركة ،يتساءل المرء:هل اسقط انفصاليو الحركة الشعبية المادة 22من المانيفستو التي تقول:-\"إن الواجب الفوري لحركة التحرير الشعبي والجيش الشعبي لتحرير السودان هي تحويل الحركة الجنوبية من حركة رجعية يقودها رجعيون وتهتم فقط بالجنوب والوظائف والمصالح الذاتية الي حركة تقدمية يقودها ثوريون وننجه الي تحويل كل القطر اشتراكيا.ولابد من التأكيد علي أن الهدف الاساسي للحركة والجيش ليس هو فصل الجنوب،فالجنوب جزء لا يتجزأ من السودان وقد تمت تجزئة افريقيا بما فيه الكفاية بواسطة الاستعماروالاستعمار الجديد،وإن المزيد من التجزئة لن يخدم إلا اعداء افريقيا\".وحقيقة لا ادري كيف يقفز الانفصاليون في الحركة الشعبية علي هذه المبادئ الواضحة التي اختطتها الحركة عند تأسيسها؟ وحسب علمي لم ينعقد حتي الآن مؤتمر لتغيير هذه المادة.ولا ادري من اين يكتسب هذا التيار الانفصالي القوي أو عالي الصوت،شرعيته الفكرية؟ومن العجيب أنهم لا يستشهدون بالمانيفستو ولا بقرنق،ويكتفون بالمساجلات والمغالطات أو اللجؤ الي الشواهد التي تبنتها الحركات الجنوبية في الماضي والتي أدانها المانيفستو بشدة. يمكن القول بأن بداية التسعينيات من القرن الماضي،شهدت تراجعا منتظما للموقف الوحدوي والاشتراكي للحركة الشعبية.ويعود هذا التحول لاسباب عدة أهمها استيلاء الاسلامويين علي السلطة السياسية في 30 يونيو1989 ثم تحويل الحرب الاهلية الي حرب دينية أو جهاد مقدس.وارجع الاسلامويون هذا الموقف الجديد الي مبررات ثقافية علي رأسها الدين والعقيدة كمكونات اساسية للثقافة،وبالتالي احتل موضوع الهوية مكانة متقدمة في الصراع.واستطاعت الحركة الاسلاموية أن تجر الجنوبيين الي ميدان المعركة الجديد:الهوية الثقافية كسبب جوهري وراء الصراع وبالتالي تراجع الحديث عن الاسباب الاخري التي ركز عليها المانيفستو مثل التخلف الاقتصادي والتطور غير المتكافيء والاستغلال والهيمنة السياسية.واحتلت ثنائية: العروبة مقابل الافريقانية أو الزنوجة،الاسلام مقابل المسيحية أو الاديان الاحيائية. ويظل موضوع الهوية الثقافية شديد الغموض ويصعب فك اشتباكه وتداخله مع مفاهيم عديدة متطابقة أو متشابهة.كما لم يتوصل الباحثون الي تعريف قاطع يمكن الاجماع أو الاتفاق الكامل حوله.ومن العجيب أن السودانيين جعلوا من هذا المفهوم الغامض مصدر صراع دموي داخل الوطن.بينما الاوطان في كثير من الحالات تقوم علي الدستور والمصالح المشتركة حتي ولو تعددت وتنافرت الثقافات.ولكن في حالة وجود ثقافة اقصائية او متعالية أو مهيمنة،وهذا دور غالبا ما تتبناه نخبة داخل هذه الثقافة بقصد تكريس امتيازاتها من خلال ايديولوجية تروج لفكرة تفوق ثقافة معينة.وهنا تمت عملية تعميم بعضها مقصود والبعض الآخر عفويا،تخلط بين اسلام وعروبة الجبهة الاسلامية القومية المسيسة والمؤدلجة وبين اسلام استطاع التعايش علي هذه البقعة الجغرافية التي تسمي السودان ،في تسامح وقبول للآخر نادرين.وهكذا تصاعدت العنصرية والعنصرية المضادة خلال العقدين الماضيين ووصلت الآن الي قمتها مع الدعوة \"العادية\" الشائعة للانفصال كخيار وحيد وحتمي للأزمة السودانية.وتنامي عدد الانفصاليين في الشمال والجنوب.فقد ظهرت مجموعة متطرفة في الشمال تنادي باستعجال الانفصال وعدم الانتظار حتي يناير 2011موعد الاستفتاء.وفي نفس الوقت تنامت فئة قرأت تقرير المصير بأنه يعني فقط الانفصال وقيام دولة مستقلة في الجنوب. نتج عن التطور الفكري والسياسي السابق الذي دعم الخيار الانفصالي،تطور تنظيمي داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان أجبرها علي التخلي عن المبادئ الوحدوية والاشتراكية التي تبنتها الحركة في بداياتها واعلنت بوضوح في المانيفستو والمؤتمر الأول.فقد شهدت سنوات التسعينيات الاولي انشقاقات داخل الحركة الشعبية قادتها كوادر ذات ميول انفصالية واضحة رافضة لفكرة السودان الجديد.واتهمت هذه العناصر قرنق والحركة الشعبية بأنهم يميعون أو يذوبون قضية الجنوب في قضية كبرى لا تخصهم.فهم لا يعنيهم تحرير السودان،ويجب عليهم الانشغال بحل مشكلة الجنوب فقط.وتحالف بعضهم مع النظام وتحت تسميات تدعو لاستقلال السودان،ولم يمانع حكام الخرطوم في ذلك طالما كان المنشقون معادين لقرنق والحركة.ومن ناحية اخري،ظهرت خلال هذه الفترة بالتحديد،فكرة ومفهوم:تقرير المصير.وصار متداولا بين الجنوبيين في ندواتهم ومؤتمراتهم ثم انتقل الي الدوائر الدولية،ثم انطلقت مباراة الاحزاب ومزايدتها في تبني الفكرة واصبح المفهوم جزءا ثابتا في خطابها السياسي. رافق كل هذا قدر من الابتزاز الخفي والمعلن،إذ لم يعد هناك من يجرؤ علي رفض أو نقد تقرير المصير.واخيرا تضمنت اتفاقية السلام الشامل مبدأ تقرير المصير- ولكن كما اسلفت- لم يعد يعني غير الانفصال وبالتالي طمس مبدأ حرية الاختيار. ويعيش الجنوب هذه الايام قمة صناعة الانفصال من خلال عملية تزييف وعي متكاملة تنشط وسط الشباب بالذات.فمن المفروض أن يتدرب هؤلاء علي الديمقراطية وحرية الاختيار.والتوعية الانتخابية في الاستفتاء تعني امتلاك الحقائق،مجردة علي قدر الامكان عن الوحدة والانفصال ثم تأتي عملية التفضيل بين الاثنين.ولكن هذا الاختيار معدوم فعلي الشباب أن يختار بين الانفصال...أو الانفصال. الصحافة