مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    بولس : توافق سعودي أمريكي للعمل علي إنهاء الحرب في السودان    إجتماع بسفارة السودان بالمغرب لدعم المنتخب الوطني في بطولة الأمم الإفريقية    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    شاهد بالصورة.. الطالب "ساتي" يعتذر ويُقبل رأس معلمه ويكسب تعاطف الآلاف    شاهد بالفيديو.. الفنانة ميادة قمر الدين تعبر عن إعجابها بعريس رقص في حفل أحيته على طريقة "العرضة": (العريس الفرفوش سمح.. العرضة سمحة وعواليق نخليها والرجفة نخليها)    شاهد بالفيديو.. أسرة الطالب الذي رقص أمام معلمه تقدم إعتذار رسمي للشعب السوداني: (مراهق ولم نقصر في واجبنا تجاهه وما قام به ساتي غير مرضي)    بالصورة.. مدير أعمال الفنانة إيمان الشريف يرد على أخبار خلافه مع المطربة وإنفصاله عنها    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    بعثه الأهلي شندي تغادر إلى مدينة دنقلا    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    الخارجية ترحب بالبيان الصحفي لجامعة الدول العربية    ألمانيا تدعو لتحرك عاجل: السودان يعيش أسوأ أزمة إنسانية    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في مقالات د. سلمان: حق تقرير المصير تأخر نصف قرن وجون قرنق لم يكن وحدوياً
نشر في الراكوبة يوم 12 - 08 - 2012

أقول بإطمئنان إن الدراسة التي اعدها الصديق الدكتور سلمان محمد سلمان حول "مسؤولية إنفصال جنوب السودان" غير مسبوقة. قرأتها بتأنٍ أكثر من مرة،مما جعلني مطمئناً لحكم القيمة بانها "غير مسبوقة".
إنتهج الدكتور سلمان في هذه الدراسة، التي نشرها في تسع مقالات داخل وخارج السودان،أسلوباً توثيقياً علمياً متماسكاً. كما أتبع منهجاً أكاديمياً صارماً، وهي نقطة قوة هذه الدراسة، بيد أن هذا المنهج الأكاديمي الذي رصد بنزاهة " الحقائق والوقائع" كان على حساب الجانب التحليلي. إذ السياسة ليست هي فقط "حقائق ووقائع" مجردة، لكنها كذلك مباديء لا يجوز طمرها عندما تأتي "التوافقات"، وتحليل علمي يفضي الى هذه"التوافقات".
هناك ثلاثة عناوين أساسية، مستوحاة من هذه الدراسة سأتوقف عندها، وهي كالتالي:
*موضوع حق تقرير المصير الذي تأخر في الجنوب قرابة نصف قرن.
*مسألة "وحدوية" الدكتور جون قرنق.
*دوافع النظام التي جعلته يقبل "مباديء الديمقراطية" في الجنوب ويرفضها في الشمال.
لكن قبل الخوض في تفاصيل هذه العناوين، حري بنا أن نتوقف عند بعض الأفكار الاساسية التي طرحها الدكتور سلمان. أمهد لذلك بمحاولة لفهم أوضاع بلادنا في ظل النظام الحالي، على أعتبار ان الدراسة ركزت على التطورات التي حدثت خلال الفترة من 1989 وحتى 2005 .
*تعرضت بلادنا الى إختلال شديد في توازنها السياسي والاجتماعي نتيجة سياسات القهر المتصلة التي أتبعها هذا النظام الذي جعل هدفه الاستراتيجي هو "استمراره" وكل ما يخدم هذه الاستراتيجية هي تكتيكات حتى لو أدت الى تقتيل الناس وإشعال الحروب القبلية والإثنية.
* انقسم السودان اجتماعياً إلى شريحة صغيرة مرتبطة بالنظام أو تعمل بداخله، وأغلبية ساحقة فقيرة محدودة الدخل والموارد، وفي بعض الأحيان معدمة بائسة لا تجد قوت يومها، في حين تآكلت الطبقة الوسطى، وما تبقى منها ترك البلاد موجة تلو أخرى الى الخارج، كل ذلك أدى الى تنافر في مجموعات القيم ومستويات الوعي، وفي قواعد السلوك، على مستوى الحياة اليومية.
* تركيز السلطة وصل حداً لم تعرفه البلاد من قبل، الى درجة ان هناك وزراء أو من هم في مرتبتهم ظلوا في اماكنهم بطول فترة النظام نفسه، أي 23 سنة بالتمام والكمال.
*هذا الوضع جعل المشروع الفردي الخاص هو الذي يحكم تصرفات المسؤولين، الى حد إقتصرت اهتمامات اي مسؤول على أوضاعه، لم يعد له غير مطالبه الشخصية. وهو ما أدى الى إستشراء الفساد بصورة تفوق كل خيال.
*تجسدت حالة القهر المستمرة، الى حالة من فقدان الثقة بالنفس واللامبالاة والإحباط استبدت بجماهير واسعة نتيجة إحساسها بأنها ليست معزولة عن المشاركة في صنع القرار، بل هي اصلاً خارج دائرة أي قرار، كما انها غير قادرة على التغيير لغياب قيادات توجهها وتحفزها لإسقاط النظام.
الآن أعود الى افكار الدكتور سلمان، محاولاً مناقشتها واحدة تلو أخرى، إتفاقاًَ أو إختلافاً. معتمداً على توثيقه المتزن والموضوعي للأحداث.
إختار الدكتور سلمان عنواناً لدراسته يقول"مسؤولية إنفصال جنوب السودان"، وهذا العنوان يتسق تماماً مع ما حاولت الدراسة البرهنة عليه، من أن "هناك مسؤولية" تقع على النظام والمعارضة والحركة الشعبية في "فصل الجنوب".
هنا أختلف تماماً مع الدكتور سلمان، إذ ان "الجنوب" كانت له اصلاً "قضية" قبل استقلال السودان، تجسدت في فعل عنيف عام 1955 أي ما يعرف باسم " تمرد توريت". هذه القضية كانت تفترض أن يقر الجميع "بحق تقرير المصير" في عام 1953، وليس في عام 2005 (إتفاقية نيفاشا)، أو يجري التمهيد لهذا الحق إنطلاقاً من مفاوضات فرانكفورت عام 1992 بين على الحاج ممثل النظام أيامئذٍ والمجموعات المنشقة عن الحركة الشعبية.
لذلك أقول إن "حق تقرير المصير تأخر في الجنوب قرابة نصف قرن". أقول ذلك لثلاثة اسباب:
اولاً / كان الشعار الذي تبنته الحركة الوطنية في عام 1953 هو مبدأ"حق تقرير المصير" كمقدمة نحو الاستقلال، كيف إذن أعتبرنا هذا الحق "مقدساً" في الشمال خلال تلك الفترة، وننكره على الجنوبيين، بل نستكثر عليهم حتى الحكم الفيدرالي، كما لاحظت الدراسة.
ثانياً/ جميع الثورات والإنتفاضات التي حدثت في السودان بما في ذلك الإنتفاضة الأخيرة ظل هدفها الأساسي هو "عودة الديمقراطية"، والديمقراطية ترتكز على مبدأين، هما "دولة المؤسسات التي تضمن تداول الحكم" و "إحترام حقوق الإنسان بمعناها الواسع ويشمل ذلك حقه في تقرير مصيره". كيف إذن نطالب للديمقراطية لإنفسنا، ثم عندما نأتي الى " الجنوب" نقوم "بشيطنة" هذا الحق.
ثالثاً/ هناك اختلافات بلا حصر بين الشمال والجنوب، إثنية وثقافية ولغوية ودينية وإجتماعية، وثمة نظرة دونية من الشمال نحو الجنوب، وظلامات وقعت، وغير ذلك كثير، كلها كانت تحتم على المطالبين "بالديمقراطية" في الشمال، ألا يضعوا سقفاً لهذه "الديمقراطية" عندما يأتي الأمر الى " الجنوب"، هذا هو "المنطق الديمقراطي"، إذ لا يعقل أن تكون" ديمقراطياً" في الشمال، وتصبح "ديكتاتورياً" في الجنوب ، وهي سياسة أتبعها الجميع سواء في عهود الديمقراطية، او في ظل الأنظمة الشمولية.
يلاحظ الدكتور سلمان أن "مانيفستو "الحركة الشعبية لتحرير السودان" الذي صدر في يوليو 1983 ركز على وحدة السودان، وتناولت الفقرة الثالثة من المانيفستو مبدأ "السودان الجديد" القائم على المواطنة التي تساوي في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن العرق أو الدين أو اللغة او الثقافة".
ويقول الدكتور سلمان إن "الحركة الشعبية منذ قيامها في مايو 1983 أنشأت تحالفاً وطيداً مع نظام منغستو هايلي مريم " ويزيد قائلاً" "يعتقد الكثيرون إن شعار السودان الجديد الموحد فرضته وأملته العلاقة مع نظام منغستو".
ثم يأتي الدكتور سلمان الى نقطة جوهرية مشيراً الى انه بعد اربعة اشهر من سقوط نظام منغستو في اثيوبيا (مايو1991) " في السادس من سبتمبر، عقدت الحركة الشعبية اجتماعاً لمكتبها السياسي في توريت التي كانت تحت سيطرتها ، وأصدرت عدة قرارات أهمها القرار رقم 3 الذي نصت الفقرة الثانية منه على موقف الحركة الجديد المتمثل في المطالبة بحث تقرير المصير في اية مبادرة للسلام في المستقبل".
ويرى الدكتور سلمان أن الحركة الشعبية ما كان يمكنها رفع شعار"حق تقرير المصير" في ظل تحالفها مع نظام منغستو، الذي كان يحارب الارتريين المطالبين بالحق نفسه.
كل هذا عين العقل.
لذلك سأقول وبإطمئنان شديد، ان الدكتور جون قرنق كان "وحدوياً" في حالة واحدة فقط، وهي ان يقوده هذا الشعار الى الوصول الى رئاسة كل السودان، وذلك حقه وطموح مشروع في دول واحدة، لكنه كان مقتنعاً تماماً في قرارة نفسه انه يخوض "حرب إنفصال" بشعارات جديدة أكثر جاذبية من شعارات "الانانيا"، وكانت قطعاً في بعض جوانبها شعارات ملتبسة.
لاشك أن الرجل كانت له كاريزما كاسحة، وهو ذكي، ولأنه ذكي فإنه في كثير من الأحيان يستطيع أن يطرح أفكاراً يمكن أن تكون لها قيمة تاريخية. كان البعض يرى في أسلوبه دهاء وآخرون يعتبرونه مدرسة متقدمة في علم التفاوض والحقيقة انه الاثنان معاً. ظل يعتمد على تراكم أخطاء الخصوم، لإقتناص الفرص الصعبة.
كان هذا هو الإنطباع الذي خرجت منه بعد لقاء واحد يتيم، ولعل من المفارقات ان معظم وقت اللقاء الذي جرى مع الدكتور جون قرنق في عام 1991 بعد فترة وجيزة من إنضمام "الحركة الشعبية" الى "التجمع الوطني الديمقراطي" كان حول "القيمة المضافة" التي يمكن ان يكسبها "التجمع" من تلك الخطوة، وكان رأيي أنها مبادرة سياسية ستكون لها آثار سلبية على عمل "التجمع" وهدفه وقته هو "عودة الديمقراطية" لأن الأحزاب الشمالية ستظن ان "الحركة الشعبية" ستقاتل نظام الخرطوم، وعندما يسقط ستعود هي الى الحكم، بل أكثر من ذلك قلت، وهذا رأي موثق، إن المفاوضات بين النظام والحركة الشعبية عندما تأتي لن يجد فيها " التجمع" مقعداً، وهذا ما حدث.
تأكيداً لرأيي بشأن "وحدوية" جون قرنق، اعود الى واقعة لها دلالة لا تخفى أوردها الدكتور سلمان قائلاً "عقد التجمع الوطني الديمقراطي اجتماعاً موسعاً لقيادته في نيروبي في ابريل 1993(...) تحدث الدكتور جون قرنق في بداية الاجتماع بإسهاب مؤكداً التزام الحركة الشعبية بوحدة السودان، والتي يجب أن تبنى على الديمقراطية والتعددية الدينية والعرقية والثقافية والعدالة الإجتماعية و احترام حقوق الإنسان، والتي كما ذكر تمثل مقومات السودان الجديد" وفي السياق نفسه نقرأ "الملاحظة الأساسية في خطاب دكتور قرنق هي تركيزه على وحدة السودان، وعدم تطرقه إطلاقاً لمسألة تقرير المصير أو مقررات مؤتمر توريت التي تضمنت هذا المبدأ (...) ومن المحتمل أن قادة الأحزاب الشمالية لم يكونوا على علم بها، أو أنهم كانوا على علم بها ولكن قرروا عدم إثارتها".
كان الدكتور جون قرنق يدرك متى يخرج "حق تقرير المصير" من جرابه، ومتى يتعمد إخفائه. في حواره مع النظام ظل يطرح الموضوع دون مواربة، وفي لقاءاته الدولية بقى متمسكاً به، أما مع السياسيين في الشمال، فإن المبدأ يتم تعويمه داخل شعارات فضفاضة.
على سبيل المثال عندما طرحت المبادرة المصرية الليبية، وهنا أتفق تماماً مع الدكتور سلمان في أنها كانت تجسيداً للسذاجة السياسية لنظامي حسني مبارك ومعمر القذافي، قبلت بها الحركة الشعبية على الرغم من أن المبادرة شددت على "تأكيد وحدة السودان" لكن سنلاحظ ان الحركة الشعبية رحبت بالمبادرة ، وهو أمر مفهوم لأنها كانت تريد استمرار تدفق اموال وأسلحة القذافي، وحياد المصريين في موضوع الإنفصال عندما يأتي، ثم القبول به حين يصبح واقعاً. لذلك حتى تفرغ الحركة الشعبية المبادرة من مضمونها طالبت بإضافة "حق تقرير المصير وفصل الدين عن الدولة". هكذا ولدت تلك المبادرة في حالة إحتضار، واستطاع جون قرنق بذكاء سياسي أن ينزع عنها أجهزة الإنعاش.
ثم أن مصر التي وقعت كشاهد على إتفاقية نيفاشا في يناير 2005، وكما اورد الدكتور سلمان، ظل وزير خارجيتها آنذاك احمد الغيط ، يردد وبمنتهى البلادة السياسية إن مصر مع "حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان شريطة ان يؤدي الإستفتاء الى الوحدة".
أتفق تماماً مع الدكتور سلمان في أن شمالي الحركة لم يتوقفوا عند تبنى المكتب السياسي الحركة الشعبية في توريت في سبتمبر عام 1991 لمبدأ "تقرير المصير" بعد سقوط نظام منغستو وإنقسام "فصيل الناصر" ، بل تجاهلوا ذلك "وفضلوا التشبث بالفقرات الرنانة من المانيفستو التي تتحدث عن السودان الجديد" على حد تعبيره.
في ظني أن شمالي الحركة الشعبية كانوا خمس فئات:
الفئة الأولى التي جذبتها شعارات "السودان الجديد" وأعتقدت أن البندقية لم تعد جنوبية فقط بل جنوبية وشمالية، وأن الصراع ليس صراعاً أثنياً وثقافياً ودينياً، بل هو صراع بين مركز مهيمن دون وجه حق وهامش مهمل بدون مبرر، وهذه الفئة وجدت أيضاً تطابقاً بين مزاجها اليساري، وشعارات الحركة الشعبية.
الفئة الثانية التي كانت ترى انها تعاني في الشمال، ظلامات مماثلة ومن نظرة دونية مثل ما عاني الجنوبيون، وهنا أتذكر وقائع لقاء مع عبدالعزيز الحلو في واشنطن قال لي فيه ضمن حديث متشعب "إذا ارادت السلطات المحلية في امدرمان هدم أحد الأحياء الهامشية على أعتبار انه لم يتم تخطيطه يكون ذلك بسرعة دون إعتبار لمصير سكان الحي، ولكن إذا قلت لهم إذا كان عدم التخطيط يبرر هدم الأحياء لماذا لا يهدم حي ودنباوي وهو بدون تخطيط، مثلاً لن تجد عندهم جواباً، والسبب أن الأحياء الجديدة يسكنها المهمشون في حين يسكن الاحياء العريقة ناس المركز" هكذا يعتقد الحلو.
الفئة الثالثة، وهؤلاء اغلبهم من الشباب وليس قيادات الصف الأول، دفعهم العداء لنظام الإنقاذ الى الإنتقال الى الجهة التي تحمل السلاح ضد هذا النظام.
الفئة الرابعة وهي شريحة صغيرة، كانت في الأصل محسوبة على الشيوعيين أو اعضاء في الحزب الشيوعي، لكنهم وجدوا أن الحزب لم يقو على إستعادة وهجه وزخمه الجماهيري بعد الضربة التي تلقاها في يوليو 1971 ، ولم تظهر بين صفوفه شخصية لها كاريزما وجاذبية عبدالخالق محجوب، ولم تتجدد قياداته، كما لم يساير الحزب التطورات المتلاحقة.
الفئة الخامسة، اولئك الباحثون دائماً عن دور وموقع، ونموذجهم الدكتور منصور خالد، الذي إنتقل من تحت معطف عبدالله خليل الى "التنظير" لنظام مايو ثم الى مستشار عند جون قرنق لينتهي مستشاراً لدى عمر البشير.
أعود الى الدكتور سلمان، لأقتبس منه فقرة جاءت على لسان أحد شماليي الحركة، وهو الدكتور الواثق كمير حول وحدوية جون قرنق حيث يقول " في الواقع ان جون قرنق من واقع معرفتي اللصيقة به، كان يسعي للوحدة وكأنه يعيش ابداً، بينما يعمل للإنفصال وكأنه يموت غداً".
في ظني أن هذه حذلقة. ولا أزيد.
الآن نتعرض الى الاسباب التي جعلت النظام في الخرطوم يقبل " بمباديء ديمقراطية" في الجنوب، ومن ذلك حق تقرير المصير، ويرفضها كلياً في الشمال.
إن هدف النظام الوحيد والأوحد هو البقاء في السلطة. هؤلاء الناس جربوا السلطة وبهرتهم وشدتهم كالمغنطيس، ولأن ليس لديهم مشروع حقيقي بل مجرد شعارات لا تتسق حتى مع الدين الذي يزعمون أنه مرجعيتهم، فإن "جنة السلطة" أصبحت هي الغاية، لذلك تعاملوا مع قضية الجنوب من هذا المنظور.
وإذا عدنا الى دراسة الدكتور سلمان سنجد ان الذي حفزه الى إنجازها، هو موقف أحد مفاوضي النظام الذي تباهى بانه الغى مبادرة الإيقاد في سبتمبر 1994 لأنها تتحدث عن "حق تقرير المصير". في حين، وكما وثقت الدراسة بطريقة واضحة، كان النظام من خلال ممثله الدكتور على الحاج قد قبل مبدأ "تقرير المصير" بعد مفاوضات فرانكفورت في يناير 1992 مع "فصيل الناصر" بقيادة رياك مشار والدكتور لام كول، حيث جاء في الاتفاقية "بعد نهاية الفترة الإنتقالية يجري إستفتاء عام في جنوب السودان لإستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار".
المؤكد أنه خلال الفترة ما بين إنقلاب يونيو 1989، وحتى سقوط نظام منغستو في مايو 1991، حققت الحركة الشعبية نجاحات عسكرية على الرغم من حملات "الجهاد" و"الدبابين"، لكن بعد سقوط منغستو، وإنقسام " فصيل الناصر" في أغسطس 1991 ، اعتقد النظام أن توظيف الإنقسام لإضعاف الحركة الشعبية الأم حتى لو كان الثمن الإقرار بحق"تقرير المصير" سيخفف عليه أعباء وضغوطات الحرب في الجنوب، بعد ان تبين له أن الحسم العسكري غير ممكن إطلاقاً.
وعلى الرغم من فذلكة الدكتورغازي صلاح الدين في نيروبي في سبتمبر عام 1994، حول تقرير المصير ساير النظام هذا المبدأ، وتتضح هذه الفذلكة من خلال الجملة التي اقتبسها الدكتور سلمان من كلامه، يقول غازي" بالنسبة لحق تقرير المصير فإن مصير السودان كان قد تحدد في عام 1956 عندما نال السودان استقلاله". جملة تعبر عن نفسها.
ولسوء حظ دكتور غازي فإن النظام الذي ينتمي اليه، سيعود الى "حق تقرير المصير" في إتفاقيات "الميثاق السياسي" عام 1996، وإتفاقية "الخرطوم للسلام" في عام 1996 وإتفاقية "فاشودة" عام 1997، وأنعكس كل ذلك في دستور عام 1998 الذي تضمن "حق تقرير المصير" كما اورد الدكتور سلمان.
في كل هذه الاتفاقيات كان هدف النظام "ربح الوقت" وفي ظنهم أن موضوع "حق تقرير المصير" هو مجرد كلام يقال طالما إنه لن يؤثر على قبضتهم في الخرطوم.
ولسوء حظ الدكتور غازي صلاح الدين ايضاً، انه هو شخصياً سيكون رئيس الوفد المفاوض في مشاكوس من يونيو عام 2002 وحتى نوفمبر 2003 وتلك المفاوضات كما يقول الدكتور سلمان اتخذت "أهم وأخطر قرار في تاريخ السودان" أي حق تقرير المصير عن طريق إستفتاء يختار فيها الجنوبيون بين الوحدة والإنفصال. ونعرف أن اتفاقية نيفاشا اعتمدت في الاصل على ترتيبات وبروتكول مشاكوس. أي أن غازي صلاح الدين الذي ترك مكانه الى على عثمان محمد طه، سلمه اتفاقاً أهم بنوده "حق تقرير المصير" ، وهو الأمر الذي سيتم في يناير 2011، ولم يكن امام غازي صلاح الدين إلا أن يلعق جملته العجيبة " بالنسبة لحق تقرير المصير فإن مصير السودان كان قد تحدد في عام 1956 عندما نال السودان استقلاله".
وإذا تأملنا سير المفاوضات من اتفاق فرانكفورت وحتى نيفاشا، وربطنا ذلك بأمرين، هما المواجهات العسكرية في الجنوب، وصراعات السلطة والمواقع في الشمال، التي "جعلت الثورة تأكل آباءها" كما حدث للدكتور حسن الترابي وجماعته عام 1999،
سندرك يقيناً أن "إستراتيجية البقاء في السلطة" (أطلقوا عليها للتضليل سياسة التمكين) هي التي أدت الى أن يكون النظام "ديمقراطياً علمانياً" في الجنوب، في حين يلوح "بالتطبيق الكامل للشريعة" في الشمال. والمثير أن الحركة الشعبية قايضت الشريعة في الشمال مع "حق تقرير المصير في الجنوب" كما لاحظ ذلك دكتور سلمان.
هل سمعتم في التاريخ الإسلامي برمته بحكام يهددون شعبهم بالشريعة السمحاء، وبالدين الذي جاء يعلم الناس مكارم الاخلاق.
أختم لأقول إن الدكتور سلمان اصاب كبد الحقيقة عندما قال إن المثقفين والسياسيين السودانيين ظلوا يعتبرون ما يحدث في جنوب السودان "تمرد على القانون والنظام"، ولعل هذا الإعتقاد هو الذي أطال عمر هذه المشكلة، لأن النخب السودانية لو كانت عالجت الأمر وفق المبدأ الديمقراطي أي "حق تقرير المصير" لما كانت سفكت كل هذه الدماء سواء كانت دماء جنوبية أوشمالية، وتعرض الجنوب لكل ذلك الخراب، ودفع الشمال فاتورة باهظة لحروب متتالية. والحروب كما نعرفه، لم تقدم حلاً لأية مشكلة في التاريخ.
لكنني اختلف كلياً مع الدكتور سلمان حول قوله إن "تراكم الأخطاء والتجاوزات التي ارتكبتها الحكومات السودانية المتعاقبة في الجنوب منذ عام 1954 أدت في نهاية الأمر الى مطالبة الجنوبيين بحق تقرير المصير".
إذ الشعوب لا تذهب الى خيار " تقرير المصير" بسبب اخطاء الأنظمة والحكومات، لكن لأنه حق أساسي من الحقوق الديمقراطية وحقوق الإنسان يفترض ان تمارسه بكل حرية.
حق يرتبط بآدمية الإنسان وكرامته.
لذلك لا يمكن أن يفتر أو يتراخى النضال من أجل " الحقوق الديمقراطية" في بلادنا،على الرغم من كل البطش والقهر الذي يتعرض له الناس في الوطن الذي نحب.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.